أم كلثوم لازالت في وجداننا بعد خمسين سنة على رحيلها
أم كلثوم لازالت في وجداننا بعد خمسين سنة على رحيلها

أم كلثوم لازالت في وجداننا بعد خمسين سنة على رحيلها
خاص الدنيا
مرت ذكرى رحيل سيدة الغناء العربي أم كلثوم بعيداً عما تستحقه من اهتمام واحتفاء أقلهما من أجل إحياء الفن الأصيل والجميل والنبيل الذي نفتقده في خضم الإسفاف والتلوث السمعي بعدما أصبح ظاهرة مقيتة متداولة بأدوات الإعلام المتورط في تسويق الغناء الهابط الذي يحاصرنا أينما ذهبنا وحللنا ..
لم تكن أم كلثوم معجزة بالغناء بقدر ماكانت معجزة بالذكاء والبهاء وحسن الإختيار ، فكانت صاحبة نكتة متميزة وكاريزما آسرة . وقد روى لي والدي الأستاذ عبدالغني العطري الكثير من طرائفها ونكاتها مما يضيق ذكره هنا وهو الذي تربطه معها صداقة طيبة .
كان حرصها كبيراً على الإختيار المتميز ، فتخيرت من الكلمات أجملها .. ومن الألحان أعذبها .. فغنت من الشعر القديم والحديث أجمله . وليست ” أراك عصي الدمع ” لأبي فراس الحمداني إلا مثالاً عن عمق ذائقتها الأدبية ، وأما قصيدة ” سلو قلبي ” لأمير الشعراء أحمد شوقي ، فهي خير مثال على حبها للمعاني والمرامي ، ناهيك عما غنته لشاعر الهوى والصبا أحمد رامي , وشاعر الحب والعشق و الحياة والصبابة ” أحمد شفيق كامل ” الذي دشنت بكلماته البديعة تعاونها مع محمد عبدالوهاب في أغنية ” أنت عمري ” .. فضلاً عما أختارته من شاعر الوطن والمرأة نزار قباني …
لعل مالا يعرفه البعض عن أم كلثوم تجنبها لغناء المواويل ، وخصوصاً ال ” ياليل ياعين ” .. ويلاحظ السميعة كيف كانت أم كلثوم تستعيض عن الليالي بأن تمسك جملة ما من الأغنية وتقف عندها . فتشبعها تصرفاً وتطريباً ، وتطلع بها وتنزل بين المقامات والطبقات قبل أن تفلتها لتتابع الغناء . ولعلها في أغنية ” أنا في انتظارك ” أبدعت وأجادت وهي تقف عند ” توعدني بسنين وايام وتجيني بحجج وكلام ..” ولا تتركها إلا وقد أوصلتنا إلى الذوبان طرباً والدوخان نشوة .
ولعل أطرف موقف تعرض له موسيقار الجيل محمد عبدالوهاب مع أم كلثوم , عندما كانت تستمع منه لحن أغنية ” ودارت الأيام ” عندما وصل وهو يسمعها اللحن إلى كوبليه “عيني ياعيني ع العاشقين حيارى مظلومين ع الصبر مش قادرين ياعيني ياعيني ..” وعند لحن ” ياعيني ” راح عبدالوهاب باللحن بذكاء يطرب في القفلة حتى ختمها بشكل موال ” ياعيني ياليل ” .. وهنا احتجت أم كلثوم وقالت أيه ده ..؟ إنت عايزني اغني ياعين ياليل..؟ مش ممكن .. اجتهد عبدالوهاب ليقنعها دون جدوى، فلا هي اقتنعت ولا هو اقتنع بتعديل اللحن . وعندما غنتها لأول مرة في العام 1970 وجدها تغنيها كما أرادها مع تطريب وتطويل وهو ماجعل الجمهور يصفق ويصفق طويلاً لهذه القفلة العبقرية ..
وكان الإختلاف قد احتدم بين القامتين على مقدمة ” أنت عمري ” التي جاءت عام 1964 بتوجيه من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ورعايته ، حيث قدم فيها عبدالوهاب استعراضاً ذكياً لعضلاته الفنية ، فأغناها بالإيقاعات والمقامات الشرقية والغربية بعدما ألح على ادخال الكيتار لأول مرة على فرقتها الشرقية المحافظة ، لكنه تمكن من اقناعها بذكاء ودهاء ، فكانت ” أنت عمري ” ملحمة فنية عبقرية جعلتها أيقونة العشاق ممن تهفو قلوبهم إلى الحب والعشق والجمال .
لقد كانت أم كلثوم زعيمة لاتقل زعامتها عن أي رئيس محبوب لدولة عظمى . إذ يكفيها فخراً أنها نجحت في توحيد العرب من المحيط إلى الخليج وهو ماعجز عنه كل زعماء العرب الشرفاء .
وعلى الرغم من مرور أربعة عقود على رحيلها إلا أن أغنياتها الملحمية لاتزال الأكثر استماعاً ومبيعاً وطلباً في زمن يغيب فيه الفن الأصيل والجميل والنبيل لصالح الإنحدار والإسفاف والغناء الهابط الذي خرب الأذواق والحواس الفنية واسهم إلى هذا الحد أو ذاك في التنكيل بالهوية الثقافية والوطنية ..
وهنا علينا ألا ننسى رأي رائد علم الإجتماع ” ابن خلدون ” وهو القائل :
( أول مايتراجع ويتداعى من أمة عند انحلالها هو فن الغناء والموسيقى ..)
د . سامر العطري