اغتصاب المحارم !
يطيب للكثيرين أن يصوروا مجتمعاتنا على أنها مجتمعات كاملة الأخلاق والفضائل، تنبذ الأخطاء والرذائل، أقرب ما تكون للمدينة الفاضلة في سلوك أهلها وتصرفاتهم في شؤونهم وحياتهم.
لكن لو جرّبنا أن ننظر إلى الحقيقة بقليل من التجرد من العواطف وأن نتحلى بقليل من الموضوعية لوجدننا أننا مجتمعٌ كغيرنا من المجتمعات اليشرية لنا ما لنا وعلينا ما علينا، وتختلف النسبة بين هذه وتلك باختلاف البيئة والأخلاق والثقافات، وأحياناً تنعدم الأخيرتين كلياً فنجد أنفسنا أمام حالات لا أخلاقية نعجز عن استيعابها أو تصوّرها في خيالاتنا، لأنها تشكل حالات شاذة جداً عن نمط تفكيرنا وأخلاقنا ، لكنها في النهاية موجودة وتعيش بيننا وتتنفس من هوائنا.
في مطلع تسعينيات القرن الماضي كنتُ لا أزال أخطو خطواتي الأولى في عالم المحاماة ، وكنتُ كلّما توغلتُ في مجاهل هذا العالم أو في زواياه المعتمة وقفتُ مشدوهاً لغرابة ما أراه من واقع اجتماعي مظلم الزوايا، كريه الرواية… تختلف تلك الزوايا المعتمة اختلافاً كلياً عمّا نراه في ضوء النهار، لكن وجود العتم والنهار على تناقضهما كضدين هو أمر لا يمكن نكرانه أو نفيه.
توكلتُ عن أحد المعارف في دعوى مدنية كنا نهدف من خلالها إلى تثبيت شرائه لشقة سكنية من شخص باعها له ثم أودع في سجن عدرا نتيجة حكم قضائي صدر بحقه… الطبيعي في مثل هذه الأحوال أن نبيّن للمحكمة التي تنظر الدعوى أن المدعى عليه نزيل في سجن عدرا، وأن تتم إجراءات تبليغه الدعوى إلى السجن المذكور، وبعد ذلك تقوم المحكمة بتسطير كتاب لإحضار المدعى عليه (نزيل السجن) إلى قاعتها في يوم الجلسة وساعتها لمواجهته بالدعوى المقامة عليه وإطلاعه عليها ومن ثم سماع أقواله حول صحتها.
بعد حضور المدعى عليه الجلسة وإقراره بصحة البيع الذي كان يدعيه موكلي شعرتُ بالاطمئنان على دعوانا فتحرّك بداخلي الفضول لمعرفة الجرم الذي اقترفه المدعى عليه ليحكم عليه بالسجن، وعندما سألتُ موكلي حول هذا الموضوع حاول التملّص من الجواب، ولكنه لم يلبث أن رضخ لإلحاحي بالسؤال فأجابني: والعياذ بالله يا أستاذ.. لقد اغتصب شقيقته!
سرت القشعريرة في جسدي تلك اللحظة على نحو غير مسبوق، واعترتني مشاعر متناقضة من التعجب والدهشة والغضب والاستهجان، لم يكن بمقدوري أن أتصور أن أمراً كهذا ممكن الحصول ولم أكن قد سمعتُ بشيء من هذا من قبل وأنا لا زلتُ يومها حديث عهد بمهنة المحاماة وعالمها المليء بالغرائب والعجائب والتناقضات على مختلف أنواعها.. وازدادت دهشتي واستغرابي أضعافاً مضاعفة عندما استطرد موكلي قائلاً: والأدهى من ذلك يا أستاذ أنها حامل منه الآن وفي شهرها السادس!
تزاحمت أسئلة كثيرة في ذهني مع مشاعر الغضب والاستهجان والدهشة والاستغراب والفضول.. ولم أكن بطبعي من الناس الذين يميلون لإرضاء فضولهم بالقيل والقال، بل وجدتُ نفسي مدفوعاً وقتها للقراءة والبحث القانوني والنفسي حول أسباب وظروف ودوافع هكذا جرائم، ومن ثم معرفة العقوبات التي شرّعها المشرع لإنزالها بمن يرتكبها، وأخيراً معرفة طرق معالجة نتائجها وما ينشأ عنها من آثار من الناحية الاجتماعية والقانونية، فرحتُ أشتري وأقرأ كتباً عديدة حول علم النفس، ثم حول علم نفس المجرمين، وتتبعتُ عشرات المقالات التي بحثت في هذا الموضوع من الناحية النفسية والاجتماعية، فخلصتُ من حيث النتيجة على الصعيد النفسي والاجتماعي إلى أن العوامل النفسية والاجتماعية تلعب دوراً مؤثراً كبيراً في هذا النوع من الجرائم والممارسات الشاذة، وكذلك هناك عوامل بيولوجية تدعم هذا المُحرَّم ، ناهيك عن أن هذا النوع من الجرائم لم يكن وليد العصر الحديث ومتغيراته الحضارية والثقافية أبداً، إذ أن له تاريخ ضارب في عمق الماضي، فقد اتفق علماء الاجتماع والتاريخ على أن السِفاح أي زنا الأقارب أو المحارم كان ظاهرة موجودة في كل الحضارات السابقة التي عرفها الإنسان. ففي مصر الفرعونية نجد أن بعض الملوك قد تزوجوا من بناتهم، وبعضهم تزوج من أخواتهم، كما فعل رمسيس الثاني وتوت عنخ آمون، وكذلك الحال في روما القديمة التي يحفل تاريخها بقصص مشابهة، وكذلك بلاد الإغريق حيث يروي لنا التاريخ أن بطليموس الثاني قد تزوج من أخته أرسينوس، ولم يكن الأمر ليختلف عن ذلك في بلاد الفرس، أو حتى في الهند القديمة، إضافة إلى أن زنا المحارم كان منتشراً لدى العديد من القبائل والجماعات البدائية مثل قبائل كمبوديا والإنكاس في بيرو والزاندي في زائير وقبائل الهنود الحمر في شيلي.
كما وجدتُ أن هناك عوامل شخصية خاصة بالفرد تُعتبر عاملاً محفّزاً ومهيّئاً لهذا النوع من الجرائم، وفي مقدمة هذه العوامل يأتي إدمان المخدرات والكحوليات إذ أنها تؤثر على التكوين العقلي للشخص وتجعله أقل قدرة لرفض هذا النوع من الأفكار الشاذة ومقاومتها … وقد اعتبر بعض الباحثين في علم الاجتماع أن الفقر المدقع هو سببٌ مباشرٌ في ارتكاب هذا النوع من الانحرافات! ولعل قولهم هذا يصح جزئياً، لكن المفارقة أنني وجدتُ أيضاً حالات مشابهة لتلك الارتكابات في بعض البيئات شديدة الترف، فخلصتُ إلى أن الفقر المدقع وشدة الترف وجهان لعملة واحدة تؤدي إلى نتائج مشابهة سواء في هذا الموضوع أو في غيره.
ويشير عالم النفس الشهير فرويد إلى أن تابو السِفاح قد نشأ من الإحساس بالذنب اتجاه أمر معين ، كما لاحظ أن الآباء وأزواج الأمهات والأعمام والأشقاء هم الأكثر شيوعاً في تلك الانتهاكات، كما أن هذا السلوك –عادة– يشير إلى أمراض نفسية شديدة لدى المشاركين فيه.
بسام العطري
(محام – ومستشار قانوني.. سوريا)