الزوجة التي لم ترث!
تقدّمتُ منها بهدوء، وسلّمتُ عليها محاولاً تهدئتها، كانت تنتفض كطائر ذبيح، وكانت تتزاحم الكلمات على شفتيها بسبب انفعالها فلا أفهم شيئاً مما تقول … أبعدتها عن بهو المحاكم الشرعية لتهدأ قليلاً ، وشيئاً فشيئاً أخرجتها من القصر العدلي… واصطحبتها باتجاه إحدى الكافتريات لنجلس معاً، وتهدأ، وأفهم قصتها… طلبتُ لها ماءً وقهوة، وبدأتْ تستعيد توازنها النفسي وهدوءها شيئاً فشيئاً ، وارتأيتُ أن أفتح الحديث معها من زاوية أخرى حتى لا تتوتر ثانية ، فبدأتُ معها بالمجاملات المعتادة منطلقاً من كوننا لم نلتقِ منذ زمن طويل، وسألتها عن أخبارها وأخبار أولادها وزوجها ، فنظرت إليَّ بحرقة وقالت : هنا المشكلة .. لقد توفي عمك عبد الله (زوجها) منذ أشهر قليلة … قدّمتُ لها واجب العزاء معتذراً بعدم معرفتي بوفاته قبلاً.
تابعت حديثها : كما تعلم لقد مضى على زواجي به حوالي أربعين عاماً ، وأصغر أولادنا اليوم في الثالثة والثلاثين من العمر ، وسائر الأولاد خارج القطر ، ولم يبقَ سوانا أنا وعمك عبد الله .. بقينا معاً حتى آخر لحظة من لحظات حياته عندما توفاه الله قبل عدة أشهر – كما أخبرتك منذ قليل – تابعت بعد توقف قصير : كان حزني كبيراً على فقدي الزوج والوليف والحبيب والسند ، أقعدني حزني هذه الأشهر ، ومنذ عدة أيام بدأتُ بمعاملة حصر إرث عمك عبد الله لأكتشف أن القاضي الشرعي لا يريد أن يورّثني من زوجي !!!
نظرتُ إليها بدهشة وسألتها : كيف ذلك؟؟ هذا موضوع ليس بمزاج أحد هناك ضوابط تضبطه شرعاً وقانوناً… ردت عليَّ بحزن : نعم .. هذا ما حدث … لقد أنستني سنين زواجي الطويلة من عمك عبد الله أنني مسيحية الديانة ، وهو مسلم، وبقي كلٌ منا على دينه طوال هذه السنوات، حتى نسينا الموضوع بأكمله ، واليوم اكتشف القاضي الشرعي أنني مسيحية لا يحق لي ولا يجوز أن أرث من زوجي المسلم بعد زواج دام أربعين سنة بيننا لأننا لسنا على دينٍ واحد … طيّب ماذا عن الأربعين سنة الماضية ؟؟؟ هل كنتُ مجرّد عشيقة له ، أم زوجة ؟؟ .. إذا كنتُ زوجة فأنا يجب أن أرث، وهذا حقي كزوجة أفنت عمرها مع ذلك الرجل، أما إذا كانوا يعتبرونني عشيقة له ليس إلا فلماذا قبلوا أن ينظموا لنا عقد زواجنا في نفس هذه المحكمة وبتوقيع وختم القاضي الشرعي؟
أنصتُّ إلى كلامها باهتمامٍ كبير … وفعلاً أنا أيضاً قد فاتني وربما أنستني السنوات أنها كانت سيدة مسيحية متزوجة من رجل مسلم بعقد زواج شرعي منظّم في المحكمة الشرعية منذ أربعين سنة خلت من الآن ، إلا أننا الآن أمام معضلة حقيقية ، فهي فعلاً لا ترث من زوجها بسبب اختلاف الدين بينهما ، ويبقى ورثته فقط هم أولاده منها لأنهم يولدون وينشؤون على دين أبيهم.
نظرتْ إليَّ نظرة من يحثُّ الآخر على الكلام لربما يجد في كلامه منفذاً أو منقذاً ، ولكن للأسف لا حل لمشكلتنا ، فقلتُ محاولاً قدر الإمكان أن أضبط انفعالاتها : يا سيدتي الغالية المشكلة ليست عند القاضي الشرعي ، فالقاضي الشرعي ينفّذ نصوص القانون الموجود بين يديه ، وقانون الأحوال الشخصية قد نصّ صراحة في المادة / 264/ منه على أنه: ” يمنع من الإرث اختلاف الدين بين المسلم وغيره “.. وهذا ليس حكراً على قانون الأحوال الشخصية السوري، فكذلك قانون الأحوال الشخصية الأردني، ومثلهما القانون المصري، وكذلك القانون الكويتي واليمني، وغيرهما كذلك…
وهذا أمر ذو اتجاهين يعني لا قدّر الله لو كنتِ أنتِ من توفي فأيضاً العم عبد الله لن يرث منكِ شيئاً ، بل حتى أولادكِ – لأنهم على دين أبيهم – لن يرثوكِ أيضاً . نظرتْ إليَّ بدهشة وسألتني: من أين جاء هذا النص القانوني؟
أجبتها محاولاً الحفاظ على جو الهدوء وعدم الانفعال : لقد جاء هذا النص يا سيدتي العزيزة من رأي فقهاء الشريعة الإسلامية الذين اتفقوا على أن غير المسلم لا يرث المسلم إطلاقاً ، وعلى هذا إجماعهم ، بحيث إذا كان المورّث مسلماً وأحد ورثته غير مسلم فإنه لا يرث منه شيئاً سواء كان كتابياً أم غير كتابي ، لكنهم اختلفوا في حالة إذا كان المسلم يرث من غير المسلم وانقسموا إلى رأيين ، الأول يقول : بعدم توريث المسلم من غير المسلم تماماً كما أن غير المسلم لا يرث المسلم ، ولقد ذهب هذا المذهب جمهور فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية والزيدية ، ومستند الجميع في ذلك حديث الرسول (ص) : ” لا يتوارث أهل ملّتين شتّى ” ، بمعنى أن اختلاف الملل (الأديان) يمنع التوارث ، أما الرأي الثاني فقد ذهب إلى القول : “بأن المسلم يرث غير المسلم”، وهذا رأي الشيعة الإمامية.
وجاء قانون الأحوال الشخصية السوري فأخذ برأي جمهور فقهاء المسلمين وما أجمعوا واتفقوا عليه من رأي فقهي، فارتأى المشرّع السوري حين وضع هذا القانون أن ينص صراحة على عدم التوارث في حالة اختلاف الدين بين المورّث والوارث مهما كانت درجة القربى بينهما ، فعلى سبيل المثال حتى لو كان الأب مسيحياً وقرر ابنه أن يغيّر دينه إلى الإسلام فأسلم ، فإن هذا الابن لا يرث بعد أن أسلم من والده المسيحي في هذه الحالة … للأسف يا سيدتي العزيزة أنتِ لا ترثي من العم عبد الله، والموضوع ليس بمزاج القاضي الشرعي أو مزاجي أو مزاجكِ، بل هو بنص القانون الذي فرضه المشرّع على جميع أفراد المجتمع مهما كانت مراكزهم القانونية والأسرية والعائلية.