الصناعة السورية إلى أين؟ لا صناعة حقيقية ما لم تتمكن من التصدير صياغة دور” الخاص” ورفع جودة الإنتاج
الصناعة السورية إلى أين؟


الصناعة السورية إلى أين؟
لا صناعة حقيقية ما لم تتمكن من التصدير صياغة دور” الخاص” ورفع جودة الإنتاج
الثورة – تحقيق هلال عون:
تواجه الصناعة السورية منعطفاً تاريخياً يتطلب إعادة تصميم شاملة لاستراتيجيات الإنتاج والتسويق والتصدير، وذلك في ظل التحول الجذري الذي تشهده سوريا بعد انهيار النظام المخلوع، وتوجّه الحكومة الحالية نحو اقتصاد سوق حرّ.
في هذا التحقيق تحاول صحيفة الثورة، تحليل واقع الصناعة السوريّة، والآفاق المتاحة لها، والتفاعلات الاقتصادية والاجتماعية المرتقبة، مع الإشارة إلى التحديات والفرص التي تنتظر القطاع الصناعي خلال المرحلة المقبلة.
منطلقات التحوّل
يرى الخبير المختص بالإدارة التنفيذية وإعادة هيكلة الشركات، الدكتور عبد المعين مفتاح، أن الحكومة الجديدة، عقب سقوط النظام البائد في كانون الأول 2024، أعلنت عن خطة تهدف إلى دمج سوريا في منظومة الاقتصاد العالمي، لذلك عمدت إلى تحرير الأسعار، وتقليص دور الدولة في إدارة المؤسسات الصناعية، وفتح الباب أمام القطاع الخاص والاستثمارات الأجنبية، وفي هذا السياق جاء تحرير سعر الصرف والوقود.
كذلك عمدت الحكومة إلى إلغاء احتكارات الدولة، من خلال مناقشة خصخصة شركات حكومية صناعية وإعادة هيكلتها بآليات شراكة مع القطاع الخاص.
ولتسهيل إجراءات الاستثمار شهدت الفترة الأخيرة تبسيطاً للإجراءات الإدارية أمام المستثمرين عبر العمل على قانون استثمار جديد يحذف العديد من القيود والروتين السابق.
وعلى الرغم من التحديات، يحمل التوجه نحو اقتصاد السوق الحر فرصاً حقيقية للنهوض بالقطاع الصناعي- بحسب د. مفتاح- من خلال دخول تقنيات حديثة واستثمارات أجنبية، وفتح الأسواق أمام المستثمرين السوريين الخارجيين والأجانب، وسيُحفّز تدفّق رؤوس الأموال قطاعَ الأدوية، والكيماويات، والمنتجات الغذائية، والهيكل المعدني، خصوصاً في ظل وجود اليد العاملة المدربة نسبياً وتكاليف الإنتاج المنافسة.. وستنقل الشراكة مع شركات إقليمية ودولية خبرات تقنية وإدارية، ستسهم في رفع مستوى الجودة وخفض التكلفة على المدى الطويل.
التصدير هو الحَكَم
وعن واقع الصناعة السورية وآفاقها المستقبلية خلال الفترة القادمة يقول رجل الأعمال، الصناعي الأستاذ فيصل عطري: “في ظل الاقتصاد الحر، لا يمكن اعتبار نجاح أي صناعة حقيقياً ما لم تتمكن من التصدير، فالاعتماد على السوق المحلي ليس إلا وهماً، إذ غالباً ما تكون مدعومة بإجراءات حمائية تصبّ في مصلحة المنتج على حساب المستهلك، وهو أمر غير عادل”.
ويضيف عطري: “لو تأملنا بمكونات أي صناعة، سنجد أنها تعتمد على مجموعة متكاملة من الأسس، اهمها: بنية تحتية قوية تشمل قوانين واضحة عادلة وسلسة، طاقة متوافرة ومستقرة، شبكات نقل وشحن فعّالة وبأسعار منافسة، وشركات تفتيش عالمية ذات مصداقية عالية، مواد أولية متوافرة بأسعار مناسبة، كوادر فكرية قادرة على الابتكار والتطوير، قوى عاملة تجمع بين المهارة البشرية والقدرة على التعامل مع التكنولوجيا الحديثة، قوة تسويقية تفهم الأسواق وتخاطبها بذكاء”.
لكن، يبقى العامل الأهم -بحسب عطري- في ديمومة أي صناعة هو مدى احترامها لعملائها وفهمها العميق لاحتياجاتهم.
ويطرح مثالاً على ذلك شركة “رولز رويس” التي لا تبيع سوى عدد محدود من السيارات سنوياً، لكنها تحقق أرباحاً تفوق شركات تبيع أضعاف هذا العدد، والسبب، برأيه، أنها عرفت ما يريده عملاؤها، واحترمت رغباتهم، ولم تساوم على هويتها.
مرادفة للإتقان والرقي
الصناعة السورية في جوهرها كانت دائماً مرادفاً للإتقان والرقي، ولم تكن يوماً منافِسة بالسعر، بل بالجودة، باستثناء فترات تراجعها المؤسفة، هذا ما يؤكده السيد عطري، الذي يعترف أننا اليوم نواجه واقعاً صعباً، وأن التحديات أمامنا أكثر من الفرص، ومواطن الضعف باتت تتفوق على مكامن القوة، لأن السوق يشهد دخول منافسين جدد، والتنافس بات أشدّ، والموردون أكثر صرامة، والعملاء أكثر تطلباً، كما ظهرت بدائل قوية تغري المستهلكين.
ولكن رغم التحديات يرى عطري أن لدينا فرصة نادرة، أطلق عليها المفكر “بيير نابلوف” اسم “القوة السادسة” التي أضافها لتحليل بورتر الشهير، هذه القوة ترتبط بالظروف السياسية وتعاطف الجمهور، وهي الآن في صالحنا، لكن لا يمكن الاعتماد عليها إلى الأبد، فهي بطبيعتها مؤقتة.. لذا، علينا أن نوجه تركيزنا نحو الإبداع، الجودة، والتسويق الفعّال، فالمستهلك مستعد دائماً لدفع ثمن أعلى مقابل منتج صُمم بعناية أو تمّ تنفيذه بإتقان”.
أما الصناعات التي اعتمدت على الحماية لفترة طويلة، فيرى عطري أنها أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن تعيد هيكلة نفسها وتجد لنفسها ميزات حقيقية وقيم مضافة، أو أن تتحول إلى مجالات أخرى أكثر جدوى، ويلفت إلى أن هذا “لا ينطبق على الصناعات الخاطئة التي لا يمكن استصلاحها كصناعة الألواح الشمسية والمحركات الكهربائية، والتي أنصح بالتخلص منها بأي شكلٍ”.
إعادة هيكلة وترشيد التكاليف
وفي السياق ذاته، أي الواقع والآفاق، يرى د. عبد المعين مفتاح، أن العقلية تتغيّر مع الانتقال إلى السوق الحر، لأن الجودة والسعر شرطان أساسيان للبقاء والنجاح، لذلك ينصح بدمج بعض الوحدات الصناعية المتشابهة لتكوين شركات قوية قادرة على الإنتاج بكميات أكبر وتحقيق وفورات أعلى.
وينصح أيضاً بالاهتمام بتحويل بعض المصانع إلى إنتاج قائم على الطاقة المتجددة (الطاقة الشمسية أو الغاز الحيوي) بالتعاون مع شركات متخصصة لتخفيف العبء على تكلفة الطاقة.. ومع رفع القيود عن الصادرات، يدعو للاهتمام بأسواق الشرق الأوسط (الأردن، العراق، دول الخليج) والأسواق الأوروبية التي تمنح الأفضلية للمنتجات عالية الجودة.
ويشدد على الاهتمام بالصناعات الغذائية والنسيجية التي تمتلك سمعة إقليمية جيدة، ويمكن تحسين علامتها التجارية بالالتزام بمعايير الجودة الدولية (ISO وHACCP) لاستقطاب مهتمين جدد.
تحديات
وعن التحديات التي تواجه الصناعة السورية يرى أن هناك جملة من التحديات التي يجب معالجتها بخطط مرحلية مدروسة، ومن أهمها ضعف البنى التحتية والخدمات اللوجستية، كالطرق والكهرباء والماء، فالكثير من المناطق المتضررة تحتاج إلى إعادة تأهيل كاملة، وهذا يتطلّب استثمارات ضخمة وبرامج زمنية واضحة.
ومن التحديات أيضاً، يشير مفتاح إلى ضعف السيولة والقيود الصارمة على الإقراض وفقدان الثقة، الأمر الذي يحُول دون تقديم قروض ميسّرة للمصانع، وكذلك ارتفاع الفوائد المصرفية الذي يزيد العبء على المنشآت الصغيرة والمتوسطة، ما قد يؤدي إلى توقف البعض منها تماماً.
على الرغم من الاستقرار الأمني النسبي في بعض المحافظات، يشير د. مفتاح إلى أن الفوضى الأمنية المتفرقة في مناطق أخرى تشكل خطراً على حركة البضائع وتمنع الكثير من المستثمرين من التوجه إليها.
ويرى أيضاً أن هجرة الأدمغة واليد العاملة الماهرة خلال سنوات الحرب تركت فجوة كبيرة في مجالات الإدارة العامة والتنفيذية والتسويق والدراسات الاقتصادية والهندسة والإنتاج وإدارة الجودة، وتتطلّب برامج تأهيل وتدريب عاجلة.
التحديات التشريعيةوالبيروقراطية
وبين أنه على الرغم من قرب صدور قانون استثمار جديد، لا تزال هناك تحديات قانونية، مثل تراخيص البيئة والسلامة المهنية وتسجيل الملكية الفكرية، ما يثقل كاهل المستثمر ويربك خططه بشكل غير متوقع، وكذلك غياب قاعدة بيانات موثوقة عن المصانع العاملة وقدرات الإنتاج يجعل التخطيط الاقتصادي أكثر صعوبة ويسبّب تشوّشاً في إحصاءات النمو والتوظيف.
يتوقع د. مفتاح أن ترتفع نسبة مساهمة القطاع الخاص الصناعي في الناتج الإجمالي إلى ما يقارب 40- 45 بالمئة بحلول نهاية 2026، مقارنة بنحو 25 بالمئة قبل التحرير.
وسيخلق نمو قطاع الشركات الصغيرة والمتوسطة ديناميكية جديدة تمكّن من توزيع الإنتاج وتحفيز التنوع في القطاعات الصناعية، وسيتراجع دور الحكومة من كونها مالكاً لأغلب المصانع إلى دور المنظم والمشرّع والمراقب، ما يعني خفض الإنفاق العام على دعم المؤسسات والاتجاه نحو فرض ضريبة دخل على الأرباح الصناعية، وسيؤدي ذلك، برأيه إلى تغيير في هيكل الإنفاق الحكومي، حيث يتجه الجزء الأكبر من الميزانية نحو بناء البنى التحتية وتنمية الموارد البشرية بدلاً من دعم الإنتاج المباشر.
ويميل د. مفتاح إلى أنه رغم الفرص ستبقى الاستثمارات الأجنبية ضمن قطاعات بعينها (كالطاقة المتجددة والمواد الغذائية،
وبعض الصناعات الخفيفة) حتى يتم تجاوز المخاطر الأمنية وتثبيت الاستقرار القانوني، وقد يقتصر دخول الاستثمارات على شراكات مع رجال أعمال سوريين ذوي شبكة علاقات جيدة خارجياً لتخفيف المخاطر.
على الصعيد الاجتماعي يلفت د. مفتاح إلى ناحية مهمة تتعلق بالجانب الاجتماعي وتأثيرات التحول الاقتصادي فيه، ويرى أنه مع إطلاق حرية تشكيل شركات صغيرة ومتوسطة، سيظهر نمط عمل أكثر مرونة، حيث يلجأ العمال للفرص المؤقتة مثل خط الإنتاج الجزئي، ما يخفف جزئياً معدل البطالة، ولكنه قد يخلق عدم استقرار وظيفي.
وستشهد الصناعات الحرفية والتقليدية إحياءً جزئياً، لا سيما في المناطق الريفية، والأرياف التي تضررت بشكل أقل، حيث ستصبح مصدر دخل بديل للكثيرين بعيداً عن البطالة الكاملة.
وسيؤدي ذلك إلى صعود طبقة من أصحاب المشاريع الصغيرة، ستؤدي إلى تشكّل فئة وسطى جديدة في المجتمع؛ فئة ليس لديها مخزون رأسمالي كبعض كبار التجار، لكنها قادرة على العيش بكرامة وتحسين مستوى معيشتها.
وعلى الجانب الآخر، قد تتفاقم الفجوة بين الفئات الأكثر تهديداً بالفقر (العائدون الجدد إلى قراهم مثلاً) والفئات التي تستطيع الانخراط في الاقتصاد الحرّ والاستفادة من امتلاك رأس مال قليل أو مهارةٍ معيّنة.
خطط تحفيز صناعي
ويدعو د. مفتاح إلى إطلاق “خطّة حزمة تحفيز” لمدة ثلاث سنوات (2025-2027) تشمل خفض الضريبة على الأرباح الصناعية بنسبة 50 بالمئة للشركات الجديدة، وخصومات مؤقتة على الكهرباء والوقود المشمولين بالدعم لخطوط إنتاج استراتيجية (كالأسمدة والدواء والمواد الغذائية)، وإلى دعم برنامج وطني لإعادة تأهيل الموارد البشرية بالتعاون مع القطاع الخاص لإنشاء أكاديميات تدريب مشتركة تركّزعلى مهارات التصنيع الرقمي وإدارة الجودة والتسويق الصناعي.
وإطلاق منح دراسية للشباب لإكمال دراسات تقنيات متقدّمة، شريطة العودة للعمل في المصانع المحلية لمدة لا تقل عن سنتين، وتنمية المناطق الصناعية المتخصصة بتخصيص أراضٍ في محافظات مستقرة (مثل دمشق وحلب وحمص) لإقامة مناطق صناعية متكاملة، مزوّدة بشبكات طاقة متجددة ومرافق لوجستية، بأسعار إيجاررمزية أو مدعومة جزئياً.
وكذلك تشجيع تجمعات صناعية (Clusters) في قطاعات بعينها لتحقيق تفاعل إيجابي بين الشركات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، مثل مجمعات لصناعات النسيج أو المواد الغذائية، وتوسيع آليات الوصول إلى التمويل بإطلاق صندوق ضمان ائتماني حكومي (Credit Guarantee Fund) يضمن نسبة 70-80 بالمئة من قروض البنوك للمشاريع الصناعية الصغيرة والمتوسطة، وتشجيع الإقراض الإسلامي (مضاربة ومشاركة) كآلية تمويل بديلة للمنشآت التي لا ترغب في دفع فوائد تقليدية، خصوصاً في ظلّ الاهتمام المتزايد بالاقتصاد الإسلامي.
إضافة إلى تفعيل دورمنظّمات المجتمع المدني والغرف التجارية بإشراك غرف الصناعة والتجارة في رسم السياسات واقتراح تعديل القوانين المتعلقة بالتشغيل والاستيراد والتصدير بدلاً من منهجية “الأمر الواقع” الحكوميّ، ودعم مبادرات المجتمع المدني في مراقبة تطبيق معايير السلامة المهنية والبيئية، لإقامة صناعة مستدامة تخفض كلفة الأضرار على المجتمع.
الرؤية المستقبلية
يؤكد الصناعي فيصل عطري إيمانه بأننا “إذا فهمنا السوق جيداً ودرسنا متطلباته بدقة، سنتمكن خلال سنوات قليلة من أن نستعيد مكانتنا الصناعية”.
وفي سبيل ذلك “نحتاج فقط لإعادة هيكلة شركاتنا على أسس علمية متينة، والاستفادة من أدوات العصر، وعلى رأسها التسويق، ومنح مساحة حقيقية للإبداع”.. أما عن البنية التحتية، فيرى أن “الحكومة تبذل أقصى الجهود لتطويرها”.
وفي سياق الرؤية المستقبلية أيضا يرى د. مفتاح أنّ الصناعة السورية على مفترق طرق حاسم، فمن جهة، يأتي تحرير الاقتصاد كفرصة تاريخية لإعادة صياغة دور القطاع الخاص، ورفع جودة الإنتاج، وفتح آفاق تصديرية حقيقية.
ومن جهة أخرى، فإنّ التحديات المتمثلة في ضعف البنى التحتية، ونقص رأس المال والكوادر، وارتفاع تكاليف الإنتاج، تبعث على القلق وتستلزم تضافرجهود الحكومة والمجتمع المدني والقطاع الخاص لتجاوزها.
ويعتقد أن النجاح في هذه المرحلة يعتمد على إرادة حقيقية للتغيير، واستراتيجية واضحة تجمع بين الجولات الإصلاحية السريعة والخطط طويلة الأمد، وأنه عندما يعمل الجميع، كحكومة ومصنعين ومجتمع مدني، في تضافر وتعاون، فسيتحول دورالصناعة السورية من مرحلة “البقاء على قيد الحياة” إلى مرحلة “الازدهار والحضور الفاعل” في خارطة الاقتصاد الإقليمي.
وفي حال توفرت الإرادة وتضافرت الجهود فإننا يمكن أن نرى – خلال ثلاث سنوات، وفق مفتاح، قطاعاً صناعياً سورياً قوياً، يخلق فرص عمل، ويُعيد التوازن الاجتماعي، ويضع اسم “صُنع في سوريا” من جديد على رفوف الأسواق الإقليمية والدولية.
مواضيع ذات صلة
الحزام والطريق – سورية الغائب عن الوليمة
التوسع الصيني في مصر يدخل مرحلة جديدة
البيئة الجاذبة لماذا ندفع أثمانًا لا علاقة لنا بها؟