طرابلس – المدينة المضطهدة
المدينة المضطهدة

المدينة المضطهدة
خاص الدنيا
توطئة لشرح الظروف والمناخ الذي أنتج هذا المقال.
في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين، شهدت العلاقات بين سوريا ولبنان توتراً ملحوظاً، على خليفة التجاذبات الاقتصادية بين البلدين.
إذ كانت سوريا في ذلك الوقت تفتقر إلى مرفأ بحري لاستقبال وتصدّير البضائع، مما جعلها تعتمد بشكل كبير على المرفأ اللبناني، وخاصة مرفأ بيروت الذي كان مركزاً تجارياً هاماً في المنطقة.
ولم تكن هذه العلاقة الاقتصادية متكافئة ولا متوازنة بالقدر الكافي، فعلى الرغم من أن الجمارك بين البلدين كانت مشتركة، إلا أن إدارة هذه الجمارك كانت بيد الجانب اللبناني، حيث كان التجار اللبنانيين غالباً ما يحظون بمعاملة تفضيلية، والاطلاع مسبقاً على البضائع التي يقوم التجار السوريون باستيرادها خاصة لجهتي “المصادر والكميات”، مما مكّن التجار اللبنانيين من معرفة كل المصادر والأسعار والكميات التي يستورد التجار السوريين منها، مما مكنهم من الاتصال بتلك المصادر والاستحواذ على وكالات حصرية للبنان وسورية لهم، وقد نجحوا لهذا لمعظم الوكالات العالمية مستفيدين من ميزات معينة، ورغم عدم منطقية هذا الوضع إلا أنه تحوّل لواقع، ما شكّل نوعاً من الهيمنة الاقتصادية على السوق السوري “لازالت معظم الوكالات العالمية لسورية باسماء شخصيات لبنانية امتاداً لتلك المرحلة”
من هنا بدأت الحكومة السورية، عبر الحكومات المتعاقبة، بمطالبة واضحة وجادة بتداول رئاسة الجمارك بين البلدين، كخطوة نحو تحقيق توازن أكثر عدالة في العلاقة المشتركة.
لكن هذه المطالب كانت تقابل بالرفض المستمر من الجانب اللبناني، الذي كان يتمسك ببقائه في موقع الرئاسة، ربما للاعتبارات الاقتصادية والسياسية التي كانت تحكم القرار آنذاك.
وفي ظل هذا الجمود، اتخذت الحكومة السورية برئاسة خالد العظم خطوة تاريخية في 12 فبراير 1950، عندما قررت فصل إدارة الجمارك السورية عن اللبنانية، وبذلك أنهت الشراكة القائمة منذ فترة طويلة.
وفي نفس الوقت، أصدرت قراراً بإنشاء “شركة مرفأ اللاذقية” ضمن القطاع العام، بهدف بناء مرفأ حديث يمكنه استقبال السفن التجارية بكفاءة، وذلك تحت إشراف وزارة النقل.
كما تم إلحاق عدد من الجهات ذات الصلة بهذا المجال بالمرفأ الجديد، ومن بينها: شركة التوكيلات الملاحية، والمديرية العامة للموانئ، والمؤسسة العامة للنقل البحري.
كان لهذا القرار تداعيات كبيرة داخل لبنان، حيث اعتبر البعض أنه يهدد مصالحهم الاقتصادية، فظهرت دعوات من بعض الجهات اللبنانية لمقاطعة المنتجات والبضائع السورية.
هذه الدعوات لم تقف عند حد الكلمات، بل تحولت إلى تحركات ميدانية.
قابلها دعوات مستنكرة خاصة في مدينة طرابلس اللبنانية، حيث خرج أهل المدينة في إضراب عام خلال شهر تشرين أول من عام 1950، احتجاجاً على تلك الدعوات المقاطعة، والتي كان ينظر إليها من جانب آخر كضربة اقتصادية قد تؤثر على دخل الكثير من العائلات اللبنانية.
في تلك الفترة، نشرت مجلة “الدنيا” في زاويتها المعروفة بـ”كلمة ونص“، والتي كان يكتبها رئيس التحرير، المقال المنشور أدناه وصورة ضوئية عنه وهو بعنوان:
المدينة المضطهدة
( أضربت بالأمس طرابلس ثلاثة أيام، بعد أن كبتت شعورها طويلاً، وانتظرت طويلاً “عطف” وشفقة الحاكمين عليها.
وقد أعطت طرابلس في إضرابها درساً قاسياً لدعاة القطيعة مع سورية، وصفعتهم صفعة أفقدتهم فيها الصواب، وما ذلك إلا لأن طرابلس تشعر بشعور سورية، وتتألم لألمها.
وقد أثبتت الظروف والمناسبات أن طرابلس هي المدينة المضطهدة في لبنان، التي ضُمت إليه بالرغم منها ومن إرادة أبنائها وزعمائها.
إن شعور طرابلس كان ومازال مع سورية، وإن حب الطرابلسيين لسورية والسوريين حب جارف، لم يستطع المستعمر ولا الحكومات اللبنانية المتعاقبة أن يطفئوا جذوته.
ومازال الطرابلسيون ينتظرون يوم الخلاص للالتحاق بسورية، والعودة إلى الأم التي حملت طرابلس اسمها، فسميت طرابلس الشام وجاء فريق من اللبنانيين “المستعمرين” فغيروا سنة الله وسموها طرابلس لبنان … (ولن تجدوا لسنة الله تبديلا).
إن إضراب طرابلس ليس إلا مناسبة واحدة من المناسبات الكثيرة التي أبت فيها هذه المدينة المناضلة إلا أن تعرب عن تعلقها بالوحدة السورية، ولو رجعنا إلى السنوات الماضية واستعرضنا حوادثها وأحداثها، لرأينا طرابلس قد وقفت إلى جانب سورية عشرات المرات، وطالبت بالانضمام إلى سورية مئات المرات، فكان الحاكمون في لبنان يتجاهلون هذه الصيحات المتوالية، ويمعنون في اضطهاد طرابلس، وخنق حرية أبنائها الأحرار، وميولهم الصادقة إلى الوحدة ).
