توقيع على بياض
في تسعينيات القرن الماضي وفي معرض وكالتي عن إحدى الشركات التجارية الكبرى، استقبلتُ رجل أعمال يوناني كبير في السن والمقام، وكان الرجل كثيراً ما يرمقني بعينٍ دامعةٍ لم أعرف لها سبباً، إلى أن صارحني يوماً بشبهي الكبير لابنه الوحيد الذي فقده قبل سنوات بحادثة بحرية…
بعد أن وقّعنا معه خلال عدة أيام مجموعة اتفاقات تجارية، التفتَ إليَّ بعد توقيع آخرها وعلى شفتيه ابتسامةً حزينةً وخاطبني بلغة انكليزية:
أستاذ عطري لقد أحببتك كثيراً مثل ولدي الذي فقدت ، لذلك سأوصيك بوصية إياك أن تنسها في يوم من الأيام، وهي يا بني “إياك أن تضع توقيعك على شيء قبل أن تفكّر وتعدّ للعشرة، لأنك إذا وضعته في المكان الخطأ قد تدمّر حياتك، وإذا وضعته الموضع الصحيح قد تنقلب أحوالك إلى الأفضل والأفضل، فكّر ملياً أين تضع توقيعك”.
الحقيقة لم تغب كلمات الرجل يوماً عن بالي، لدرجة أني ما وضعتُ توقيعي يوماً على ورقة إلا تذكّرتُ كلماته التي تصلح لأن تُكتب بماء الذهب، وكنتُ في المقابل أصاب بالدهشة من أناس يراجعونني وقد ارتكبوا أخطاءً فادحةً بإمضائهم عقوداً أو سندات أمانة أو شيكات دون تفكيرٍ أو تدبّرٍ منهم، الأمر الذي أدخلهم في مجهولٍ مظلمٍ كانوا في غنى عنه لو أنهم أعملوا عقولهم وبصائرهم. وأسوأ تلك الحالات هي الحالات التي قد نصادفها في الحياة عندما يقوم شخص ما بدافع الثقة المفرطة أو الحاجة الماسة أو اللامبالاة المتناهية بتوقيع ورقة بيضاء فارغة يسلمها لشخص ما على أنها ضمان له أو تأمين مقابل دين ما أو التزام ما منه اتجاهه.
قبل عدة سنوات راجعتني إحدى السيدات بشأن إشكال قانوني وقعت فيه من جراء سوء تقديرها للعواقب، فقد اضطرت تحت ضغط الحاجة والظرف الاضطراري بسبب مرض والدتها وتراكم مصاريف العلاج إلى الاقتراض من أحد الأشخاص الذي طلب منها تأميناً وضماناً للمال الذي أقرضها إياه أوراقاً فارغة موقعةً منها على بياض بحيث يمكنه متى يشاء أن يكتب فيها ما يشاء، وهي –بطبيعة الحال – مذيلة بتوقيعها.
بالفعل قامت بالتوقيع على ثلاثة أوراقٍ بيض وسلّمتهم للرجل الذي احتفظ بهم، وبعد فترة بدأت تسدد له المبلغ الذي استدانته منه، وعند انتهائها من المبلغ طالبته بالأوراق البيض التي وقعتها، وطلبت منه استردادها كونها قامت بإيفاء المبلغ. فما كان منه إلا أن أجابها بأن المبلغ الذي سددته ليس سوى فوائد المبلغ الأصلي، وأنه يعتبر ذمتها ما زالت مشغولة بأصل المبلغ وطالبها بالسداد الكامل والعاجل خلال مهلة قصيرة حددها لها، وبانتهاء المهلة التي حددها لها قام بإملاء إحدى الأوراق البيض المذيلة بتوقيعها بعقد بيع بينه وبينها وموضوعه البيت الذي تقطنه مع والدتها، وبموجب هذا العقد أقام دعوى تثبيت بيع أمام محكمة البداية المدنية في دمشق مطالباً بتثبيت البيع وتسليمه المنزل بوصفه مشترياً له وقد سدد كامل الثمن (بحسب ما ذكر في عقد البيع الذي ملأ به الورقة البيضاء الموقعة منها).
أطرقتُ طويلاً بعد أن استمعتُ إلى قصتها وقد راعني منها ذلك الإهمال وعدم الاكتراث والتبصّر الذي تعاملتْ فيه مع موضوع خطير كهذا، وكانت تتقافز في ذهني عشرات القواعد القانونية التي أرستها محكمة النقض حول التعامل بالورقة البيضاء المذيلة بتوقيع أو بصمة شخص ما، وكل تلك القواعد تؤكد أن صاحب البصمة أو التوقيع على بياض ملزم بما سيتم كتابته على تلك الورقة لاحقاً من التزام أو تعهد يُنسب إليه .كما تؤكد تلك القواعد أيضاً أن التوقيع على بياض يفيد التفويض بإملاء السند حسب الاتفاق بين الطرفين.
نظرتُ إلى السيدة طويلاً ثم سألتها: هل تمتلكين أي دليل كتابي أو ورقة مكتوبة تدحض العقد الذي يدعي به خصمك ؟ أجابتني مرتبكة: لا.. لا أملك أية ورقة.. ألا تصدقني يا أستاذ؟ أقسم لك أن كل كلامي صحيح حرفياً.
أجبتها بأسى: بل أصدقك، لكن المشكلة ليست بتصديقي لكِ! المشكلة بوسائل الإثبات القانونية يا سيدتي، فالمحكمة تنظر إلى ما قدّمه خصمك من دليل كتابي على أقواله وهو الورقة التي وقعتِ عليها على بياض وقام هو بملئها، لا يمكننا دحضها إلا بدليل يساويها في قوة الثبوت، أي لا بد لنا من دليل كتابي أو ورقة مكتوبة تدحضها، وأنت تقولين أنكِ لا تملكين تلك الورقة أو ذلك الدليل الكتابي. واجتهاد محكمة النقض قد استقر على أنه: “إذا كان السند موقعاً على بياض، فلا يجوز إثبات ما يخالفه بغير الطريق الكتابي، لأنه لا شيء يمنع صاحب التوقيع على بياض من إملاء الورقة قبل تسليمها للخصم”.
سألتني وقد تملكها الرعب: ماذا يعني هذا يا أستاذ؟ أجبتها وأنا حزين على حالها: للأسف الشديد يا سيدتي، هناك قاعدة عامة تقول: “إن المفرّط أولى بالخسارة”.. وأنتِ فرّطتِ ابتداءً إذ كان يجب عليك أن تقومي بزيارتي واستشارتي قبل أن تضعي توقيعك على تلك الأوراق، وليس الآن بعد أن وقعت الفاس بالراس –كما يقولون– للأسف دعواكِ مجرد كباش قانوني لا طائل منه ولا نتيجة له سوى اللعب على عامل الوقت، لذلك أعتذر منكِ عن استلام هذه الدعوى.
بسام العطري
محام ومستشار قانوني- سورية