جولة قصيرة في ظلال هموم كثيرة – د. نزار العاني
نظراً لتقدمي بالعمر (83 سنة) ، وحذراً من الحوادث الطارئة ، قررت عدم الخروج من البيت حتى تهدأ الأحوال قليلاً ، والاكتفاء بتأمين حاجات بيتنا الضرورية ، وخصوصاً الخبز ، كيفما اتفق.
بعد مرور أسبوع كامل ، أي يوم السبت 14 ديسمبر الحالي ، قررت الخروج ورؤية سورية الجديدة بعين الواقع ، وكذلك الخروج من فوضى وفائض المعلومات والأخبار المدهشة والخرافية ّ، والمتضاربة والمتناقضة ، وسيولها التي تتدفق من كل بسطات الإعلام – راجعوا مقالتي عن البسطات التي كتبتها على صفحتي قبل سقوط الأسد بيوم واحد – وأغرقتني في البلبلة.
رغبت نفسي ، ورغب عقلي في رؤية الواقع الشاخص في دمشق ما بعد الأسد معاينة ميدانية ، وكي أتوقف عن دفع الأتاوات المالية لأصحاب البسطات الإعلامية والمسترزقين من طوفان التكاذب من جهة ، ولقلة الإعلاميين الرصينين ورفيعي العلم والثقافة من جهة أخرى ….
ولأربع ساعات ، ومثل مريض فرانكفورت – وهو ضابط المخابرات الألماني الكبير الذي هرب من قسم العناية المشددة في مشفى فرانكفوت ، حين وصل إليها الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ، ومشى 30 كم على قدميه للنجاة – مشيت من بيتي وتجولت في أحياء كثيرة لاستخلاص العبر من الحاضر الماثل أمام ناظري أنا ، لا ( الجالس في طبريا ، وضراطه واصل ليّا ) ، فتعالوا للتجول معي .
حارة البزم ، وجادة هاشم الأتاسي ، حيث يقع بيتي ، كان الهدوء يعم المكان ، وبدأت خدمات التنظيف تلم النفايات ، وسألت ” أحمد” عامل التنظيف عن أمر التشغيل ، فقال لي أنهم منذ اليوم الأول عادوا للعمل لأن هذا واجبهم . قبلته على خديه وشكرته ، وفي داخلي قلت : أحمد هذا الذي أعرفه من عشرات السنين هو بطل حارتنا المجهول.
وبصريح العبارة التي لا أستخدمها أبدا أقول : هذا الزبّال بطلي !
عند حديقة الجاحظ – وهو عبقري وفيلسوف تتلمذت منذ كنت صغيرا على كتبه – ما تزال المطاعم مغلقة الأبواب ، وطار صوابي من الفرح لغياب المتسكعين وأراكيلهم الباذخة ، وأنا أصلاً ضد هذه الظاهرة المقيتة التي يقع البعض من عائلتي الصغيرة في ورطتها ! وافتقدت غياب طاولات النساء الصباحية في مطعم ومقهى ( فرساي) ، والمحجبات معظمهن والمتأركلات أيضاً حول موائد الثرثرة التي تستنزف العمر . وهذا أمر طيب ، كي “يَنْضَبّ” نصف المجتمع العاطِل في عملٍ منتج، وخصوصاً أن مطعم ومقهى ( فرساي) ليس بعيدا عن مقر ومركز الإتحاد النسائي العتيد وعضواته المخصيات !
أمام آمرية الطيران في شارع المهدي بن بركة ، وهو المبنى العملاق الذي تحفظ ذاكرتي تفاصيله ، لأن بيتي القديم عام 1970 كان في الجوار . هذا المبنى العملاق يحرس أبوابه الخارجية عنصر واحد لا غير من إدارة العمليات العسكرية ! وعلى ركن المقهى ومبنى الآمرية رأيت حُطام سيارتي جيب عسكريتين خردة لا يليق بجيش أن يحسبها من عتاده ، وأطلب من المسؤولين المبادرة إلى إخفائها ، كي يشعر “المهدي بن بركة” بالراحة في قبره، وهو الغيور على جمال شوارع دمشق !
أمام مبنى سفارة مصر القديمة في شارع أبو رمانة رأيت حُطام الزجاج الخلفي لسيارة فخمة ، ومن الواضح أن الزجاج الخلفي المهشم ، كان يحمل ملصقاً لصورة بشار الأسد ، أو علم الدولة السابق ( وأطلب من القارئ قراءة مقال المعارض نبيل سليمان عن تواريخ الأعلام السورية منذ الاستقلال إلى يومنا هذا) !
في ساحة المحافظة عاد تمثال يوسف العظمة الذي كان رابضاً أمام باب نادي الضباط القديم بجانب البرلمان إلى الساحة ، بعد ترحيل تمثال الفلاح الذي جرت العادة على تسميته بتمثال (حمد).
في المرجة – حيث شُنق شهداء السادس من أيار – سمعت بأذني الصراخ العالي لشابين يحملان أكداساً من العملة السورية، وأنا شبه الأطرش على رغم السماعة التي كلفت المبلغ المرقوم ، يقولان على الملأ : صرّاف صرّاف صرّاف ، وسألتهما عن سعر الذي كنا من الخوف ، نسميه ” الأخضر” ، وهو الدولار ما غيره ، فقالا 11800 .
فصل ختام الجولة وأهدافها العملانية:
صلحت ساعتي يد مع بطاريات (ديلوكس) ، ودفعت مئة ألف ليرة ، واشتريت من البحصة بطارية لجهاز اللابتوب الذي أكتب بمساعدته على رغم انقطاع الكهرباء ودفعت 185 ألفاُ ، واشتريت من سوق الكهرباء – كلمة فارسية معناها الحرفي : جاذب القش – منبع إضاءة ( لمبادير) متحرك مزود ببطارية ليثيوم طويلة الأجل بحوالي 300 ألفاً ، وأوقية لوز مملح بقشره ودفعت 15 ألفاً .
وحين أنجزت شراء حاجياتي ، وفي طريق عودتي من المرجة المكتظة بطيور الحَمَام وبالآلاف المؤلفة ، والناس كذلك ، يطعمون الحَمَام بفتات الخبز والبذور ، والكراسي والجلسات المجانية تحت السماء المُشمسة في كانون ، وخليط من البشر السوريين لا مثيل له سوى بالجنة أو النار ، والبعض على الصراط ، والمدهش حقاً إنني لم أرَ شرطياً واحداً ينظم المرور ، أو يحافظ على ترتيب هذه الحشود ، وكل هذه المعمعة العكاظية تنظم نفسها بالتسيير الذاتي ، والتيسير الإلهي !
على يساري وأنا عائد من المرجة إلى البحصة ، لفت نظري الزجاج المكسر لواجهة المركز الثقافي الإيراني ، ولا شيئ سوى الجدران ، ومن الواضح أن هناك من سَلَب ونَهَب ، وهو شيئ لم يحصل في “حلب” .
لم يبق من محتويات المركز الثقافي سوى عشرات الكتب باللغتين العربية والفارسية متروكة مع الزبالة على الأرض ، دخلت وأكملت عملية السلب وانهب ، وفعلت كما يفعل بعض المثقفين اللصوص ، ولا تستغربوا من هذا التوصيف ، فالمثقف كائن بشري يسرق ويكذب ويؤجر قلمه ويسطو ، وأنا سطوت على كتابين فقط بسبب الكيس الثقيل الذي أحمله ، وأشجع بعض طلاب المعرفة أن يذهبوا ليلتقطوا ما بقي من الكتب قبل أن يلقيها زبال المرجة في شاحنة الزبالة !
لمسة إنسانية أبكتني:
هناك جسر مرتفع للعبور من جهة جامع (يلبغا) إلى البحصة ، وأنا أعيش حاليا بثلث قلب كما يجمع أطباء القلب الذين أراجعهم ، نتيجة لجلطة عام 1980 ، ولعملية قلب مفتوح أجريتها في الكويت عام 2004 ، ولذا أتحاشى استخدام الدرج قدر المُستطاع.
وفيما أنا أضع قدمي اليمنى على الدرجة الأولى من درج الجسر للصعود ، ولكي أنال رضى شيوخ السنة والجماعة وبركتهم على تطبيق سيرة تيامنوا ، هرع شاب قوي ينزل على الدرج ( لا أعلم إن كان متيامناً أو متياسراً ، ولا أعلم شيئاً عن دينه أو طائفته أو مذهبه) لكنه من السوريين بالتأكيد ، وهو في الأربعين من العمر كما عرفت من عضلات ذراعه والتربيت على كتفه ، وحمل كيسي ، واتكأت على كتفه حتى أوصلني إلى الجهة الأخرى من الجسر ، وهمس قائلاً مع السلامة يا عم .
وعبر الجسر عائداً لسبيله !
رجعت إلى بيتي متهالكاُ وسعيداً ، وقضيت مساء السبت وطوال الأحد في تصفح الكتابين .
أحد الكتابين من تأليف (باول هورن) ومترجم من الإنكليزية إلى العربية بإشراف د. جابر عصفور ، ودراسة شاملة من 95 صفحة لكتاب فارسي قديم عنوانه (الأوستا) جاء ذكره في تراثنا العربي عند ابن الأثير والمسعودي وفي الفهرست.
والعنوان مشتق من اللغة الفهلوية ( أوستاك) وتعني ( المتن الأصيل) ، وهو كتاب في علم الأخلاق.
ويعتبر الكتاب مع أدبيات زراداشت من التعاليم الموقرة عند الفرس .
أما الكتاب الثاني فهو مكرّس لدراسة ثمانية فقهاء من الطائفة الشيعية من بينهم: الأشعري والطرابلسي والطوسي وغيرهم.
وأتبرع أمام تاريخ الإبداع من جعبتي الأدبية فقيهاً تاسعاُّ اسمه (الشيخ زبير) كما أسماه عباس محمود العقاد في كتابه الطريف عن شكسبير ، وماقيل من مزاعم حول أصوله العربية.
وأنا من المعجبين بالشيخ زبير وبرواد حلقة ذكره من التلاميذ النجباء ، ومنهم هملت ومكبث والملك لير وعطيل.
وخصوصاً خصوصاُ أقف ضد الفتوى التي أصدرها بعنوان (ترويض الشرسة) وجرجرتها.
والمكسب الحقيقي للسطو على الكتابين هما :
أولاٍُ : وفّرنا مالياً 15 ألف ليرة ، هي ثمن أوقية اللوز المملح بقشره التي اشتريناها من حر مصارينا الحلال.
ثانياً : لأول مرة أعرف من أين جاء إسم بيت (الساطي) أقرباء زوجتي السنّية الدمشقية الكردية !؟ فهي زوجة الذي (سطى) على كتابين من مكان للشيعة ، وتنجس بلمسهما مما استوجب الغسل والوضوء !! ومن أقرباء زوجتي هالة أجليقين (أم عمّار) أيضاً وأيضاً ، بيت (الدقر) الشوام ، الذي يقال أنهم يهود واسمهم الأصلي (دَكَر) .
أما أنا نزار العاني ، فقد شاء الله أن أنتمي إلى السنّة والجماعة ، الحنفي من جهة الأب ، والشافعي من جهة الأم ، والعراقي الأصل ، ومسقط رأس جدنا الأول الذي عاصر آدم هو مدينة عانة !! وفي استنساب مجهود اشتقاقي جغرافي ، أن الشيخ منتجب العاني الذي ولد وعاش في عانة قبل طوفان نوح ، وقبل تشكل المحيطات واليابسة بأربعة مليارات سنة ، وجاء إلى جبال العلويين وأنشأ قرية ( بيت عانة) .
وهكذا فأنا أطالب الحكومة بملكية هذه القرية بورقة طابو زرقاء.
وبعد الجولة القصيرة في ظلال الهموم الكثيرة ، تبين لي أن السوري (أخو شليته) بحق وحقيق ، وأن الرابح الأكبر هو التاجر الذي طبع أكثر من مليوني علم من الشكل الجديد ، وبمقاسين : كبير وصغير ، قابلين للإلصاق حتى على سطح التيفال (ستيكر).
وباعة العلكة والكلينكس والخبز من الأطفال والبنات الصغيرات، وفي عز البرد ، هم باعة الأعلام على الأرصفة.
وأغرب ما شاهدت في جولتي عشرات (البويجية) من الشباب والرجال – أنا منذ سبعين سنة ، وإلى يومنا هذا ، أقوم بهذا العمل وأتقنه في بيتي ، ولدي عدّة متكاملة أكثر تعقيدا وبريقاً من بطاقة تكامل – في منطقة فندق برج الفردوس والشام وساحة المحافظة ونزولاُ وفي ساحة المرجة ، وهؤلاء إما من مخلفات البؤس والفقر من المُعدمين الذين كان النظام السابق يخفيهم تحت شعارات الإشتراكية التي مضى زمانها ، أو أنهم من العائدين من التهجير الطويل بحثا عن لقمة شريفة في وطنه !!!
انتهت جولتي بمغص شديد الوطأة جرّاء البرد والتعب ، وجرّاء التفكير بالعمر المبدد الذي سرقه النظام من حيوات البشر ، لصالح الفاسدين واللصوص والمُتخمين حتى الثمالة من الأموال والثروات الطائلة التي لا تأكلها النيران ، بل ربما ستأكلها لأنها من السِحت والمسروقة من المقهورين والمعذبين ، وبالحرام.
دمشق , الإثنين ، 16 ديسسمبر ، كانون الأول