
حينَ التَقَت السُلطة بالحِكمَة
لقاء الإسكندر الأكبر بالفيلسوف الاغريقي الساخر ذيوجينيس
(Alexander the Great and Diogenes the Cynic)
من هو الفيلسوف الاغريقي ذيوجينيس من مدينة سنوبي؟

هذا الفيلسوف الساخر والمُثير للجدَل (ذيوجينيس) والمولود حوالي (412 أو في 402 قبل الميلاد) في مدينة (سينوبي – Sinope) بمقاطعة اغريقية قديمة كانت تدعى:
بافليغونيا –Paphlygonia وهي ميناء قديم على الساحل الجنوبي للبحر الأسود بشمال تركيا حالياً وتقع على برزخ يربط شبه جزيرة (بوزتيبي – Boztepe Peninsula) بالبر الرئيسي وهي معزولة عن هضبة الأناضول من جهة الجنوب بواسطة جبال عالية مغطاة بالغابات.
لاحقا تم نُفيَ الفيلسوف (ذيوجينيس) من قبل السلطات الحاكمة في مدينة (سينوبي) والتي يُرَجح أنها كانت تتكون من القُضاة أو مجلس المدينة لأنها كانت مدينة اغريقية ولديها مؤسسات مدنية تُدير الشؤون القانونية والمدنية لمواطنيها.
سبب نَفي هذا الفيلسوف من مدينة (سينوبي)؟
كان السبب هو اتهامه بتشويه او تغير مَلامح العملة الخاصة بالمدينة ووفقاً للمصادر التاريخية القديمة فإن والد هذا الفيلسوف ويدعى:
(ايكيسياس –Hicesias) كان يعمل في مجال التداولات المالية او صرافاً وقد اتُهم الفيلسوف ووالده بهذه التهمة مما أدى الى نفيهما خارج المدينة ومع الأسف لا توجد وثائق تاريخية تُحدد في أي سنة حدثت واقعة النفي لكنه يُرجح أنها حدثت عندما كان هذا الفيلسوف شاباً ويقدر الباحثون أن هذه الحادثة قد وقعت ما بين بدايات ومنتصف القرن الرابع قبل الميلاد أي حوالي (370 – 360 قبل الميلاد).
حادثة التشوية التي قام بها هذا الفيلسوف وتفاصيلها الدقيقة للأسف غير مذكورة بشكل واضح تماماً تاريخياً ولكن قد تكون قد حدثت من خلال تغيير شكل العملة المعدنية مثلقطعأو مسح جزء من المعدن المصنوعة منه أو إضافة علامات او كتابات عليها وهذا الأمر وفق القوانين التي كان معمول بها آنذاك يُعتبرجريمة خطيرة تقوض الثقة في اقتصاد المدينة.
هذه الحادثة برغم غموض حيثياتها وتفاصيلها نظراً لامتزاج حياة هذا الفيلسوف بين الحقيقة والأسطورة إلا انها تعكس موقفه الرافض للمؤسسات والنظام الاجتماعي في تَحديه للقيم والأعراف الاجتماعية التي كانت سائدة آنذاك كما أصبحت رمزاً لِمُهمته الفلسفية لاحقاً.بعد نفي هذا الفيلسوف من مدينة (سينوبي) استقر به الحال في مدينة أثينا ثم بعد ذلك انتقل الى مدينة قريبة من العاصمة أثينا وتدعى (كورينثوس -Corinthos) حيث أمضي سنوات حياته الأخيرة فيها وتوفي بعام (323 قبل الميلاد).
كان الفيلسوف (ذيوجينيس) واحدًا من أكثر الفلاسفة الاغريق غرابة وتأثيرًا في تاريخ اليونان القديمة كما يُعد من أبرز رموز الفلسفة الساخرة (Cynic school)، وهي مدرسة فلسفية أكدت على الاكتفاء الذاتي الرواقي ورفض كل اشكال الترف كما تدعو إلى الحياة الفاضلة بالانسجام مع الطبيعة، ورفض القيم المادية، والسلطة، والمظاهر الاجتماعية الزائفة.
اشتهر الفيلسوف (ذيوجينيس) بتصرفاته الاستفزازية وروحه الساخرة، وانتقاداته اللاذعة والجريئة حيث كان يعيش حياة بسيطة للغاية وقد ورد في المؤرخات القديمة انه كان ينام في جَرَة خزفية كبيرة (غالباً ما يُظن خطأ أنها برميل)في أحد أسواق مدينة أثينا كما أن سلوكه الغريب وذكاؤه الحاد كانا موضع إعجاب وسخرية مُعاصريه وقد اشتهربانه كلما كان يتجول بين الناس كان يحمل فانوسًا مُضاءً في وضح النهار وهو يُردد جُملته الشَهيرة: (أبحث عن إنسان صادق).
من هو الإسكندر الأكبر؟
كان الإسكندر الثالث المقدوني (Alexander III of Macedon)، المعروف باسم الإسكندر الأكبر (356–323 ق.م)، أحد أعظم القادة العسكريين في التاريخ وقد وُلدَفيعام (356 قبل الميلادبمدينة (بيلا – Pella) الاغريقية والتي تقع شمال غرب اليونان حالياً والتي كانت عاصمة مَملكة مَقدونيا (Macedonia)، وتوفي بعام (323 قبل الميلاد) في مدينة (بابل) القديمة والموجودة اليوم في العراق وهو ابن ملك مَقدونيا (فيليب الثاني – King Philip II) والملكة (أوليمبياس –Olympia)ومنذ بداية شبابه تتلمذ على يد الفيلسوف الاغريقي الشهير (أرسطو ) الذي غرس في شخصيته الحكمة وحب الفلسفة والعلوم.
عندما بلغ الإسكندر سن العشرين تولّى عرش مملكة مقدونيا بعد اغتيال والده، وأصبح بعدها قائدًا للجيش اليوناني. وفي عام 334 قبل الميلاد، حين كان في سن الثانية والعشرين، بدأ حملته الشهيرة نحو الشرق لغزو الإمبراطورية الفارسية وحين انتهى منها أنشأ واحدة من أضخم الإمبراطوريات التي امتدت من اليونان حتى الهندوتوفي الاسكندر بمدينة (بابل) العراق حاليا بعام (323 قبل الميلاد) وهوفي سن الثانية والثلاثين.
القصة الشهيرة وواقعة لقاء الاسكندَر الأكبَر بالفيلسوف (ذيوجينيس) في كورينثو:
قبل انطلاق الاسكندر في حملته العسكرية شرقًا للقضاء على الفُرس قام بزيارة لعدة ممالك اغريقية آنذاك لتعزيز تحالفاته معهم وتوحيد هذه الممالك تحت قيادة واحدةومن ضمن هذه الزيارات زار الإسكندر مدينة كورينثوس(عام 336 قبل الميلاد)وخلال زيارته لمدينة (كورينثوس)، عبّر الاسكندر عن رغبته في لقاء الفيلسوف الشهير (ذيوجينيس)، الذي سمع كثيرًا عن حكمته وأسلوبه الفريد.
في ذلك الوقت كان الفيلسوف (ذيوجينيس) يعيش في إحدى ضواحي المدينة وتُدعى:
ضاحية (كراتيوم –Cratium)،وعندما وصل الاسكندر لمكان تواجد هذا الفيلسوف وجده مستلقيًا تحت أشعة الشمس فأرسل الإسكندر جنوده إليه، فقالوا له:
(الملك الإسكندر يريد مقابلتك)
فرد عليهم الفيلسوف (ذيوجينيس) بلا مبالاة قائلاً:
(إن أراد رؤيتي، فليأتِ هو إليّ)
وعندما وصل الاسكندر اليه بقي (ذيوجينيس) جالساً في مكانه دون أن يكترثبأي بروتوكول تعظيم كما يفعلون العامة مع الملوك كما لم يقم بأية شكليات تفخيم أو ترحيب فبادره الإسكندر بالكلام ليعرفه بنفسه قائلاً:
(أنا الإسكندر، ملك المقدونيين).
فرد عليه (ذيوجينيس) بهدوء:
(وأنا ذيوجينيس الساخر).
هذا الحديث المُختصر بين الرجلين كان قصيرا جداً لكنه كان عميق ومؤثر بنفسية الاسكندر الذي أعجب جدا بشجاعة (ذيوجينيس) الشامخة وبساطتها وهذا ما دفع الاسكندر لسؤاله قائلاً:
(ألا تخاف مني؟)
فرد علية (ذيوجينيس ) مباشرة قائلاً:
وهل أنت خيرٌ أم شرّ؟
هذا الجواب أربك الاسكندر لوهلة وجعله يفكر مَلياً قبل أن يرد عليه لكن بعد برهة من الزمن جاوبه الاسكندر قائلاً:
(أنا خير بالطبع).
عندها قال (ذيوجينيس) بلهجة المُستغرب من كلام الاسكندر:
(ولِمَا يخاف المرء من الخير؟)
عندها أيقن الاسكندر انه امام فيلسوف يَصعُب استفزازه أو مقارعته أو حتى التغلب عليه وهمَ بالمغادرة لكن وقبل ان يغادر الاسكندر سأل (ذيوجينيس) قائلاً:
(ما الذي يمكنني أن أقدمه لك؟ اطلب ما تشاء).
فأجابه (ذيوجينيس) بجملته الخالدة والعميقة جداً وهو يُشير بيده للإسكندر أن يتنحى من امامه حيث كان يقف الاسكندر بينه وبين الشمس قائلا:
( لا تحرمني ما لا تستطيع ان تعطيني إياه).؟ !!!
ما معنى هذا الرد؟
لم يكن الفيلسوف (ذيوجينيس) يقصد بهذه الجملة إهانة الاسكندر او الإنقاص من قيمته وعظمته، مع أن بعض قادة جيش الإسكندر ممن كانوا معه استهجنوا هذه الجملة خاصة وأنها صادرة من رجل بسيط جداً من عامة البشر تجاه ملكهم.
إلا أن فصاحة وبلاغة وحكمة الإسكندر كانوا أكبر من قدرة استيعاب قادة جيشه لما قاله (ذوجينيس ) فقد فهم الاسكندر ما كان يرمي اليه هذا الفيلسوف بجوابه وعرف ان ما سمعه من رد كان يعبّر عن نظرة الفيلسوف (ذوجينيس) العميقة للعالم وعن موقفهالمبدئيالذي كان بمثابة عمل من أعمال المقاومة الفلسفية للسلطة والثروة معا وعن اعتقاده بأن السعادة تكمن في الاقتصاد والاكتفاء الذاتي وليس في التَمَلك أو السيطرة وانه أراد ان يقول للإسكندربعبارة أخرى وببساطة شديدة:
انه لم يكن بحاجة الى أي شيء يمكن ان يقدمه له الملك وانه برغم عظمة الاسكندر وسلطته وسلطانه وثروته،لم يكن يملك ما يحتاجه الإنسان حقًا مثل (الشمس والنور) واللذان هما المصدران الحقيقيان الوحيدان لثروة الانسان والطبيعة على حد سواء و(الحرية، والانسجام مع الطبيعة) الذي كان يملكهم أصلاً (ذيوجينيس) قبل مجيء الاسكندر اليه وهذه الأشياء أغلى من أي هبة مادية ولا يستطيع أحد أن يُعطيه إياهم).
ومع أن إجابة (ذيوجينيس) كانت عميقة وفلسفية وساخرة بنفس الوقت وربما من خلال بساطتها كانت تفوق بقوتها على قوة حضور الاسكندر نفسه إلا انها كانت تتضمن رفضًا صريحًا للسلطة والهيمنة أياً كان ورائها أو كانت أسبابها وتأكيدًا على قيمة الكرامة الإنسانية واحترام الذات والاستغناء بالتواضع مع الشموخ وكذلكدعوة للفكر والتأمل في المعنى الحقيقي للوجود والسعادة.
هذا الموقف أدهش الاسكندر الى حد الذهول، فقال عبارته الشهيرة وهو يغادر الفيلسوف (ذيوجينيس ):
(لو لم أكن الإسكندر، لوددت أن أكون ذيوجينيس).
الإرث الفلسفي لهذا اللقاء
برغم التناقض والاختلاف الظاهري الذين كانا واضحين بين الرجلين (من جهة القائد والملك العظيم ومن جهة أخرى الفيلسوف المتشرد البسيط) إلا أن الرجلان أدركا عظمة كل منهما حيث كان الاحترام سيد الموقف ومُتبادلاً بينهما كما كان اعترافًا متبادلًا بقوة شخصية وحكمة كليهما فمن ناحيةكانالإسكندر يتمتع بالذكاء الحاد للإعجاب بإخلاص (ذيوجينيس) لمعتقداته واكتفائه الروحي وان يدرك بأن القوة الحقيقية ليست في الغزو، بل في التحكم بالنفس في حين ظل(ذيوجينيس ) أمينًا ومُخلصاً لمبادئه غير مُبالي بالسلطة المُصطنَعةحتى أمام أعظم رجال عصره.
هذا اللقاء دخل التاريخ كأحد أكثر اللحظات رمزية وعمقًا في الفلسفة القديمةفلقد كان صِراعاً بين القوة المُطلقة والحرية المُطلقة كما كان هذا اللقاء لحظة التقاء السلطة بالحكمة، والمادة بالروح، والقوة الخارجية بالقوة الداخلية وربما في نهاية المطاف كان الأكثر حُرية هو من لم يكن يملك أي شيء.
بقلم: الكابتن البحري ورُبان أعالي بحار
مصطفى كريدلي
أثينا في 8 نيسان – ابريل 2025
ملاحظة: هذا المقال بالنسخة العربية واللوحات المُرفقة به خاص بالصحيفة الإلكترونية السورية (الدنيا) وبالنسخة اليونانية بمجلة الإغريق القُدماء (Ancient Greeks) الصادرة عن إدارة المعارف اليونانية.
المصادر:
- Plutarch, Life of Alexander
- Diogenes Laërtius, Lives and Opinions of Eminent Philosophers
- Peter Sloterdijk, Critique of Cynical Reason
- Robin Lane Fox, Alexander the Great
- William Desmond, Cynics
- Paul Cartledge, Alexander the Great: The Hunt for a New Past
- Pierre Hadot, Philosophy as a Way of Life
- Richard Stoneman, Alexander the Great: A Life in Legend
- Oxford Classical Dictionary, entry on Diogenes of Sinope
Cambridge Companion to the Hellenistic World, chapters on philosophy and politics