شؤون قانونيةاخبار الدنيا
أخر الأخبار

سند أمانة و سندات الأمانة - أقصر طريق للمشاكل

سندات الأمانة

سند أمانة و سندات الأمانة – أقصر طريق للمشاكل
يلجأ كثيرٌ من الناس في معرض تعاملاتهم اليومية إلى التوقيع على سندات أمانة، لتكون تلك السندات بمثابة التأمين للشخص الدائن بأن المدين سيقوم بتنفيذ التزاماته اتجاهه سواء كانت تلك الالتزامات مالية أو غير ذلك..

لا يتنبه أولئك الناس إلى أنهم بمجرد توقيعهم على السند فقد أصبحوا ملتزمين قانونياً وخاضعين للقواعد القانونية التي تحكم موضوع سندات الأمانة وتنظّمه، فتراهم يقعون ضحية استهتارهم واستخفافهم بوضع تواقيعهم على تلك السندات كيفما اتفق ودون اهتمام بالتبعات التي ستترتب على ذلك في حال حصول أي خلاف مع الشخص الذي حرروا له السند، وفي مواضع كثيرة حدث أن المدين قد أوفى بالتزامه اتجاه الدائن إلا أنه سهى عن استرداد السند منه، فيقوم الأخير بمطالبته به أمام القضاء ليبتزه ويهدده بالسند الذي استهتر باسترداده وتركه في حوزة يد غير أمينة.

اتصل بي أحد المعارف القدامى طالباً استشارتي بموضوع ضروري وهام –كما وصفه– وتواعدنا على اللقاء في اليوم التالي… التقيته وكان مهموماً ومحبطاً جداً الأمر الذي دفعني للاستعجال بسؤاله عن الموضوع الذي يقلقه والذي طلب لقائي لأجله، فعرض عليّ مشكلته بتفاصيلها التي تتلخص بأنه من خلال تعامله التجاري قام بتحرير ثلاث سندات أمانة فارغة لأحد أصدقائه مقابل أن يزوّده ذلك الصديق بمبلغ مالي كبير للعمل على أن يتقاسما أرباح وعوائد ذلك العمل فيما بينهما..

وبالفعل كان ذلك، حيث أحضر له صديقه المال، وهو في المقابل حرر له السندات ووقع عليها، وبعد حوالى ستة أشهر انتهى العمل فتقاسما الأرباح الناتجة عنه بمنتهى الدقة، ثم قام الرجل بتسليم أصل المبلغ وأعاده إليه كاملاً لصديقه، وعندما طالبه بالسندات التي وقعها له، أجابه بأنها موجودة عنده في مكتبه ولكنه نسي إحضارها معه وأنه سيمزقها بمجرد وصوله للمكتب، فما من داعٍ للقلق.
بعد أربعة أشهر فوجئ بإنذار عدلي يطالبه برد الأمانة لشخص لا يعرفه ولم يسمع حتى باسمه من قبل خلال ثلاثة أيام، وتفاقم الأمر وازداد سوءً عندما وجد محضر منطقته يتصل به لتبليغه دعوى إساءة أمانة، وأبرز لي شق مذكرة الدعوة، وبمراجعته للمحكمة التي صدرت عنها المذكرة وجد أن الدعوى مقامة عليه من شخص لا يعرفه بأحد السندات التي وقعها لصديقه، وعند اتصاله بصديقه أنكر الأخير معرفته بالموضوع وبالشخص تماماً وادعى أنه قام بتمزيق السندات في نفس اليوم الذي تم فيه السداد والمخالصة بينهما، وعندما واجهه بأنها نفس السندات ونفس الخط ونفس القلم ونفس لون الطباعة ازداد صديقه إنكاراً للأمر وطلب منه أن يتذكر الأشخاص الآخرين الذين قام بتحرير سندات أمانة لهم ويراجعهم في الموضوع!.

أطرقتُ أفكر في الموضوع، ثم سألته: وما المطلوب مني الآن؟ أجابني بعصبية وتوتر: مطلوب منك أن تخلّصني من هذه المصيبة، أليس هذا عملك؟ ابتسمت بأسف وحزن، وقلتُ له: طالما أنك تعلم أن هذا عملي لماذا لم تستشرني قبل أن توقع السندات، ولماذا لم تطلب مني –على الأقل- الإشراف على تنظيمها، ولماذا لم تطلب مني بعد ذلك أن أكون معك عند انتهاء العمل لإجراء مخالصة بينكما؟
أجابني بامتعاض: ماذا يعني هذا؟ هل ترفض مساعدتي في أزمتي؟ أجبته بهدوء: لم أقل أنني لن أساعدك، ولكن إمكانياتي في تقديم المساعدة أصبحت محدودة جداً بسبب سوء تصرفك، فأنت ملزم قانوناً وقضاءً برد المبلغ للشخص الذي ادعى عليك بعد أن ارتضيت أن تترك خانة الاسم في السند فارغة وكذلك تركته دون تاريخ، الأمر الوحيد الحسن الذي فعلته أنك لم تترك خانة المبلغ فارغة أيضاً، وإلا لكان خصمك قد ملأ الفراغ بالمبلغ الذي يشاء وطالبك به.
سألني وقد ارتسمت على قسمات وجهه ملامح الاستياء والانزعاج: ماذا يعني كلامك؟ هل يتوجب عليَّ الآن دفع المبلغ من جديد؟ أجبته باقتضاب: للأسف الشديد نعم. ازداد انزعاجه أكثر وهو يقول بصوت مرتفع: لكنني سددت كامل المبلغ… أجبته: لكنك لم تسترد السند ولم تنظّم مخالصة على الأقل أو تحصل على براءة ذمه. استهترت بالأمر، وهذه نتيجة حتمية لاستهتارك.
قال: يعني ألا يوجد عندك حل للموضوع؟ فقلت: المحامي رجل قانون وليس ساحراً يحمل عصا سحرية تحل لكم معضلاتكم التي صنعتموها بسوء تصرفاتكم. جل ما أستطيع تقديمه لك هو المماطلة قدر المستطاع واللعب على عامل الزمن ريثما تجد تسوية أو حلاً لمشكلتك التي ستنتهي قضاءً بإلزامك بدفع المبلغ إضافة إلى تعويض للمدعي.
فقال: لكني لا أعرف هذا المدعي أصلاً. أجبته بهدوء وسعة صدر: يا صديقي.. في أول جلسة للمحكمة التي تنظر الدعوى سيقوم القاضي باستجوابك، وأول سؤال سيوجهه لك سيكون هل التوقيع الموجود على السند المدعى به توقيعك أم لا؟ وبعدها لن يهتم بأي شيء آخر…

ابتسم قليلاً ظناً منه أنه قد أتاه الفرج وقال لي: عظيم جداً، لا أريد أكثر من ذلك.. سأقول له التوقيع ليس توقيعي… لم أستطع أن أمنع ضحكة وجدت طريقها إلى فمي وأنا أقول له:  هل تظن أن المحكمة أو القاضي بمثل هذه السذاجة؟  لنفترض جدلاً أنك قلت للقاضي أن التوقيع ليس توقيعك.. فإنه سيستمع إليك حتى النهاية ثم سيقرر إجراء الخبرة الفنية والمضاهاة على توقيعك من قبل خبير جنائي تحدده المحكمة وتختاره من جدول الخبراء المعتمدين لدى القضاء ليقرر إذا كان التوقيع الموجود على السند توقيعك أم إنه كما تدعي ليس توقيعك، وسيقوم الخبير باستكتابك (أي سيجعلك تكتب اسمك وتوقع عدة مرات) ثم سيقوم بدراسة خطك وتوقيعك ومقارنته فنياً وعلمياً بالتوقيع الموجود على السند، ثم بعد ذلك سيتقدم للمحكمة بتقرير خبرته مكتوباً ليذكر فيه أن التوقيع الموجود على السند هو توقيعٌ عائدٌ لك، وعندها القاضي سيؤجل القضية للحكم، وفي نهاية الدعوى سيحكم عليك بغرامة الإنكار لأنك أنكرت توقيعك وهذه الغرامة قد تصل إلى ربع المبلغ المدعى به، كما أنه سيحكم عليك برد المبلغ المذكور في سند الأمانة ناهيك عن الشق الجزائي في الموضوع المتمثل بحبسك لمدة ستة أشهر وفقاً للمادة /656/ من قانون العقوبات.

خيّم صمتٌ ثقيلٌ على جلستنا التي انتهت بانسحاب الرجل مستأذناً وفي ظنه أنني إما لا أرغب بمساعدته أو أنني غير متمكن من مهنتي كما يجب! ثم مضت عدة شهور بعد ذلك دون أن أراه، وحين التقيته مصادفة عند أحد الأصدقاء سألته للاطمئنان عمّا حدث معه، فأجابني مرتبكاً وقد خجل من طريقة انتهاء لقائنا الأخير: والله يا أستاذ كأنك كنت حاضراً معنا. كل ما أخبرتني وحذرتني منه حدث معي حرفياً، وقد حكمني القاضي برد المبلغ والحبس، وأنا الآن أحاول تأمين المبلغ لتجنّب الحبس، لكن ما أخشاه حقيقة هو أن يقوم خصمي بتقديم السندين المتبقيين للقضاء ويطالبني بقيمتهما مرة أخرى.

بسام العطري
محام ومستشار قانوني- سورية
زر الذهاب إلى الأعلى