
صناعة الجهل
خاص الدنيا
العنوان صحيح، لاتنصدم، فالجهل أصبح صناعة، قد تساهم أنت شخصياً بنموها، ذلك أن أنظمة التعليم القاصرة و وسائل التواصل لها اليد الطولى بنموها.
الجهل لم يعد مجرد غياب للمعرفة، بل أصبح صناعةً تموّل وتُدار لتحقق المصالح.
في التسعينيات استخدم المؤرخ روبرت بروكتور (Robert N. Proctor) مصطلح “علم الجهل” أو Agnotology، لوصف اساليب التعليم وكيف تنتج الجهل وتعممه عمداً، فالانسان حين يشك بحقيقة علمية، يصبح مستعداً لاستقبال بدائل مزيفة.
من التبغ إلى الأرض المسطحة: مسارات الجهل الحديثة
سريعاً امتدّت صناعة لتشمل مجالات السياسة، الدين، التعليم، وحتى الفضاء!، فالإنسان أرسل مركباته إلى المريخ وبنى محطات فضائية حول الأرض، رغم هذا لا يزال هناك من يصرّ أن الأرض مسطحة، وأن الإنسان لم يغادر الغلاف الجوي أبداً، بل يدّعي بعضهم أن الشمس تدور حول الأرض!
هذه الادعاءات ليست نتاج جهلٍ عابر أو نقص بالتعليم، بل هي نتاج منظومة متكاملة من التجهيل، فاليوم أصبح من السهل أن يجد أي شخص “دليلًا” يدعم رأيه، حتى لو كان خاطئاً أو مجتزاً.
لكن الأخطر أن منصات التواصل الاجتماعي، بخوارزمياتها (توصل وتدعم وتبرز ما نحب سماعه)، وهذا ماجعلها مصانعَ حقيقيةً لصناعة الجهل، فهي (تُغذّي المستخدم بما يُريح عقله، لا بما يُصحّح فهمه).
رغم أن كل الأدلة العلمية “من صور الأقمار الصناعية إلى رحلات الطيران الدولية التي تعتمد على كروية الأرض” لازال مؤيدي نظرية الأرض المسطحة يرفضون ذلك، ويعتبرونه “مؤامرة عالمية”، والغريب أن كثيراً منهم لا يرفضون العلم ككل، بل يختارون منه ما يناسبهم: يستخدمون نظام تحديد المواقع (GPS) وهو أكبر إثبات لكروية الأرض، التي ينكرونها!!.
كيف تحوّل الشك لقناعة؟
لا تبدأ بنفي الحقيقة، بل بالتشكيك فيها، اطرح سؤالاً بريئاً:
“هل أنت متأكد أن الأرض كروية؟”، ثم قدَّم فكرة بديلة، مزيفة أو جزء من حقيقة خارج سياقها..، ثم ابنِ مجتمعاً افتراضياً يتبنى هذا الشك، و يدعم فيه الأعضاء بعضهم بعضاً، سيتحول هذا الرأي الخاطئ سريعاً لهويةً يُدافعون عنها بحماسة، ليس لأنه لقناعتهم بها، بل لشعورهم بالتميّز و الانتماء إلى “جماعة تعرف الحقيقة الغائبة عن الأخرين”.
وهنا يظهر الخطر الأكبر، حين يتحول الجهل لقناعة واختيار، فالإنسان حين يشعر بالعجز أو بالقلق من تعقيدات العالم، غالباً ما يجد في نظريات المؤامرة أو المعتقدات البديلة نوعاً من الطمأنينة، فبدل أن يواجه حقيقة اتساع الكون وتعقيده، يصدّق أن كل شيء مُدبّر من قبل “نخبة سرّية”، لأن هذا أسهل وأقل تعقيداً.
التعليم: أخطر ساحات صناعة الجهل
لكن صناعة الجهل لا تبدأ من الإنترنت أو المؤامرات، بل من التعليم نفسه، فمعظم الأنظمة التعليمية، لا تُعلّم الطالب كيف يفكّر، بل ماذا يفكّر، تُطلب منه حفظ المعلومات لا فهمها، وتقديم الإجابات دون مناقشتها، فيُكافئ على الطاعة، لا على التساؤل.
في مثل هذا البيئة، لا ينمو العقل النقدي، بل ينمو التلميذ ليصبح بالغاً يبحث عن “إجابة صحيحة” ولا يسأل: “هل هذا السؤالٌ صحيح؟”.
مما ينتج جيلاً كاملاً يفتقر لأدوات التفكير العلمي، ويصبح فريسة سهلة لأي خطابٍ يقدّم له مايحب سماعه ويريحه، فتصبح المشكلة ليست في غياب المعلومات، بل في غياب القدرة على تمييز الصواب من الخطأ، ويتحول المجتمع لقطيع يسهل اقتياده.
هل يمكن مواجهة صناعة الجهل؟
المواجهة لا تبدأ بنفي الخرافات أو السخرية من أصحابها، فهذا سيزيدهم تشبثاً بقناعاتهم، والأفضل هو إعادة بناء الثقة بطريقة التفكير العلمي، لا في نتائجه فقط.
يجب أن نُعلّم أنقسنا وأطفالنا أن العلم ليس مجموعة من “الحقائق الجامدة”، بل طريقة للتساؤل، والاختبار، والاعتراف بالخطأ، وأن الشك المنهجي أمر حميد، و أن التقدّم ليس إنكار الواقع، بل فهمه.
وهنا على وسائل الإعلام وصناع المحتوى مسؤولية أخلاقية في عدم نشر المعلومات المضلّلة تحت شعار “حرية الرأي”، لأن حرية الرأي لا تعني حرية نشر الكذب باسم التعددية.
في النهاية، صناعة الجهل ستنمو طالما بقي من يستثمر بها لأنها تحقق غاياته، سواء كانت:
سياسية أو صناعية أو حتى هويات اجتماعية بُنيت على رفض الحقيقة.
لكن المعرفة، تبقى تظل سلاح الإنسان الوحيد ضد الظلام (ظلام الجهل، والخوف، والوهم).
فيصل العطري
المصادر والمراجع:
- Proctor, R. N. (2008). Agnotology: A Missing Term to Describe the Cultural Production of Ignorance. Stanford University Press.
- Oreskes, N., & Conway, E. M. (2010). Merchants of Doubt: How a Handful of Scientists Obscured the Truth on Issues from Tobacco Smoke to Global Warming. Bloomsbury Press.
- Flat Earth Society Archives and Public Statements (مواقع ومنتديات مؤيدي الأرض المسطحة).
- دراسات منظمة الصحة العالمية حول تأثير التعليم على التفكير النقدي.
- تقارير وكالة ناسا حول رحلات الفضاء والصور الفضائية (nasa.gov)