طلاق إلكتروني-1
أصابت ثورة التطور التقني كافة المناحي في حياتنا، اجتماعياً، اقتصادياً، ثقافياً، معلوماتياً… إلخ.
وإذا تحدثنا عن هذه الثورة فإننا نستطيع أن نسميها عن جدارة ثورة التقانة.
ولا بد أن تتصدر قائمة هذه الثورة مجموعة التطورات التقنية الهائلة التي أصابت عالم الاتصالات الذي قفز قفزات متعددة بوتيرة متسارعة نحو مزيد من التطور .
فمن البرق والهاتف إلى التليكس، ثم الفاكس والبيجر، وصولا إلى الأنترنت والبريد الإلكتروني ( e-mail )، انتهاءً بأجهزة الخلوي ( الموبايل ) بأجيالها المتعاقبة سريعاً ، حاملة معها المزيد من التطور في عالم الاتصال بما تحمله من الميزات والتطبيقات والبرامج والخدمات الكثيرة التي كان من أكثرها شيوعا واستعمالا ميزة الرسائل النصية SMS) ومن بعدها تطبيقات الاتصال مثل واتس اب وتيليغرام وغيرهما.. (التي شاع استعمالها في مختلف المناسبات . فمن أعياد الميلاد والزواج إلى المناسبات الاجتماعية والدينية ، إلى المناسبات الموسمية الأخرى من إعلانات عن البضائع ، والترويج للمنتجات … إلخ).
كان من الملفت للنظر شيوع استعمال الرسائل النصية كوسيلة لجأ إليها بعض الأزواج لإيقاع الطلاق على زوجاتهم، الأمر الذي شكّل بذاته حالة طارئة ومستحدثة في مجتمعاتنا وبالتالي على قوانيننا الوضعية وشريعتنا، مما يجعل من هذه الحالة حالة لا بد من التوقف عندها لدراستها وتمحيصها وصولاً لجلاء ما قد يعتريها من لبس أو غموض.
قبل حوالي أربع سنوات راجعتني إحدى السيدات طارحة مشكلتها التي تتلخص بأن زوجها أرسل لها عبر تطبيق واتس اب رسالة مكتوبة طلّقها فيها بشكل صريح ، وسألتني إذا كان هذا الطلاق يقع شرعاً وقانوناً ، فكّرت قليلاً وأجبتها بهدوء: “يقع الطلاق بالكتابة المستبينة التي تبقى بعد كتابتها ويمكن قراءتها كما يقع باللفظ ، وهذا ما ذهب إليه جمهور فقهاء المسلمين ، إلا أنهم ما لبثوا أن اختلفوا فيما بينهم في اشتراط نية الطلاق عند الكتابة أو عدم اشتراطها.
ذهبت الشافعية مثلا إلى أن “الطلاق المكتوب لا يقع إلا بشرطين، أولهما أن تتوفر نية الطلاق عند الكتابة، وثانيهما أن يقرأ ما كتب بلفظ يسمع الكاتب نفسه”. في حين رأت المالكية “أن كتابة الطلاق كالنطق به”. أما قانون الأحوال الشخصية السوري فقد ذهب إلى عدم اشتراط النية لوقوع الطلاق المكتوب.
نصت الفقرة الأولى من المادة 87 منه: “1- يقع الطلاق باللفظ وبالكتابة…”. وبعد أن انتشرت ظاهرة استعمال الرسائل النصية والإلكترونية لإيقاع الطلاق في بعض المجتمعات العربية والإسلامية حصلت الكثير من السجالات الفقهية والقانونية بين رجالات الفقه والقانون، وتمخضت تلك السجالات عن ثلاثة مواقف:
الموقف الأول: يتلخص بالتشدد في هذا الموضوع منطلقاً من أنه لا يجوز التعامل مع قضية مصيرية وإنسانية مثل الطلاق بمثل هذه البساطة، لأن موضوع الطلاق يختلف حتماً عن مختلف القضايا الحياتية اليومية والاعتيادية الأخرى، وأن السماح بقبول الطلاق عبر الرسائل النصية أو الإلكترونية قد يفتح المجال أمام أطراف أخرى لتتدخل وترسل رسالة الطلاق للزوجة، وبالتالي فإنه لا يمكننا الركون أو الوثوق بمصدر الرسالة، وهل أن الزوج هو الذي أدخل المعلومة أو الرسالة فعلا ، أم أن شخصاً غيره هو الذي فعل ذلك. إذ أنه يمكن لأي شخص يريد التحايل لإيقاع الفتنة أن يرسل رسالة نصية أو إلكترونية تحمل عبارة الطلاق للزوجة دون علم من زوجها عبر جواله أو بريده الإلكتروني في غفلة منه. والشرع ينفي كل ما فيه غش وضرر، إضافة إلى أنه يجب علينا عدم استخدام التقنية لتكون عاملا مسهلا ومشجعا على الطلاق، ويجب أن لا ننسى أن الزواج مؤسسة مقدسة يجب تكريمها واحترامها ، وعندما يفشل الزواج فإننا يجب ألا نسمح للزوج بأخذ الأمر بهذه البساطة المتناهية.
وبالمحصلة النهائية فإن أنصار هذا الرأي أو الموقف يقطعون الأمر ويبتون فيه على أنه لا يجوز إيقاع مثل هذا الطلاق، بل ولا يجوز حتى اعتبار الرسالة سواء النصية أو الإلكترونية وسيلة لتبليغ الزوجة بالطلاق.
توقفتُ عن الكلام وقد شعرتُ أني أسهبتُ بعض الشيء ، ويبدو أن السيدة فهمت سبب توقفي عن الكلام فبادرتني بسؤالها :
وماذا عن الموقف الثاني؟
هنا استجمعتُ معلوماتي وتابعتُ:
الموقف الثاني: على العكس من ذلك تماماً، إذ يذهب أنصاره إلى أن الرسالة المرسلة إلى الزوجة من الزوج سواء كانت رسالة نصية أو بريدا إلكترونياً ما هي إلا تعبير عن إرادة هذا الزوج بتطليق زوجته ، مما يوجب معه إمضاء هذه الرغبة، طالما تحققت شروط الطلاق كافة ، وأن الرسالة النصية أو الإلكترونية ما هي إلا مجرد وعاء لنقل إرادة هذا الزوج لإيصالها للزوجة وإعلامها بأمر هذا الطلاق ووقوعه، وما دام الهاتف مملوكاً لشخص معين بذاته، ورقمه معلوم ومثبت، فهذا الشخص مسؤول مسؤولية كاملة عن استعماله باعتباره مالكاً له. ومجرد ملكيته له هي دليل يثبت صدور الكلمات المكتوبة عن مالك الرقم الخلوي أو البريد الإلكتروني، وهذا ما يعد ـحسب القائلين بهذا الرأيـ دليلاً كافياً لتكوين عقيدة المحكمة لثبوت واقعة الطلاق وصدورها عن مالك هذا الرقم أو البريد ، وللمحكمة مطلق الحرية في تكوين عقيدتها من خلال القرائن والأدلة المعروضة أمامها. وبالمحصلة يرى من هم على هذا الموقف وقوع الطلاق الذي يتم برسالة نصية أو إلكترونية وأنه لا فرق بينه وبين الطلاق العادي. تململت السيدة في مقعدها وقالت لي: كلا الموقفين مغال في تطرفه وهما طرفي نقيض، الأمر الذي يوقع في الحيرة.
أجبتها: نعم.. صحيح ، لذلك فقد تكوّن رأي ثالث واقعي ومعتدل ووسط بين الموقفين، ويرى أنصاره أن الطلاق عبر الرسائل النصية أو البريد الإلكتروني هو طلاق واقعٌ ؛ واقع ما دامت نية الزوج وإرادته قد اتجهتا نحو إيقاع الطلاق، غير أن القبول بهذا الطلاق هو أمر مرهون بشروط أربعة.. (نتابعها في الاسبوع القادم).
بسام العطري
محامي ومستشار سورية