أدب وفن ورياضةسورية والعالم
أخر الأخبار

في شوارع مصر (الشعبوطة)

في شوارع مصر (الشعبوطة)

في شوارع مصر (الشعبوطة)

الاستاذ محمد المغربي
الاستاذ محمد المغربي

الاستاذ محمد المغربي
يسميها المصريون: نص نقل.
يسميها السوريون: الشعبوطة. من تشعبط يتشعبط شعبَطة وتشعبُطاً. أي تعلق بها دون أن يقعد.
أسميها أنا: الاسطبل.
وسيلة مواصلات رخيصة، وأرخص منها خدمتها، تقطع بك المسافات الطويلة مقابل نصف جنيه للراكب خلفاً وجنيه للراكب أماماً، أما بعد غلاء المحروقات فصارت جنيه خلفاً وأحياناً جنيهين أماماً أو يركب مضطران ويحمل كل منهما نصف الأجرة، وبما أن السائقين لا يحبون أن يركب بجانبهم إلا إحداهن فقد يئست من هذه الرفاهية.
صندوق خشبي متعدد الألوان وأحياناً يكون حديدياً، وبعضها معدني مبطَّنٌ بخشب، مقعدان على الجانبين من الخشب وغالباً ما يكون كل هذا متهالك مع هيكل حديدي أكثر تهالكاً، ناهيك عن انفلاتهما من كل قيد، فكأنك في أراجيح العيد، مع بعض النتوءات التي لا بد أن تنتهش شيئاً من ثيابك لتتذوقها بتلذذ، وتذيقك الحسرات جرعاً وغصصاً، ناهيك عما تجود به الشوارع والطرقات من حصير أو بساط من “الخرق” وما شاكل، لتجدها مرصوفة تحتك تنتظر أن تشعرك بالوخز أو عدم الارتياح.
أفضل الأماكن أسوؤها وأسوأ الأماكن أفضلها.
المكان الأفضل أن تكون بجانب الباب مباشرة لأنك إلى الفضاء أقرب وسترتاح من “الطوبزة” نزولاً وصعوداً مع خاصية الإمساك بطرف الباب لتجنب التماوج داخل السيارة مع كل مطب ومكبح وانطلاق، مساوئه أنك ستتحمل كل روائح الركاب باعتبار أن التيار الهوائي قادم باتجاهك مع ما يحمله من سعال أو عطاس أو حديث منفعل.
المكان الأسوأ أن تكون الراكب الأول في الداخل، فأنت مسؤول التكييف لأنك ستكون مستلم النافذة، ومسؤول النقر على الزجاج ليعلم السائق أن هناك من يريد النجاة من هذه المركبة، والشخص الذي يحمل وزن كل الركاب عند أي مكبح مفاجئ أو غير مفاجئ، إضافة إلى رفع الساقين فوق “الكوتش ، الدولاب ، الاستبنة” مع التأكيد أن الكل سيتمتع “بطوبزتك” طويلة الأمد في رحلتك لخارج “الاسطبل” وأنت تتعثر بركب وأمتعة طابور الركاب، إضافة إلى مخاطرة تململ السائق وسيره قبل نزولك كلياً، وتركك لقدرك وقدراتك “الجومبازية” التي ربما ستمنع الإسفلت من تذوق جلدك أو ثيابك، محاسنه أنك تتمتع بالهواء الداخل بحالته التي يدخل عليها دون إضافات.
الأماكن البينية تتغاير نسبتها بين المكانين لكن الراكب مسلم أمره لله في اهتزازاته و”طوبزاته” ومعاناته.
طبعاً يبقى مكان الشعبطة الأساسي هو الوقوف على الباب لاكتظاظ المكان بالبشر أو ما تبقى من بشريتهم في حالتهم التعسة تلك، وهذا العدد يصل إلى أربعة وفي حالات إلى خمسة، آلية التشعبط إما الإمساك بالنافذة التي على جانبي الباب أو بالأنبوب الحديدي المثبت على ظهر المركبة لهذا الغرض، وهنا سيلهيك الابتهال أملاً بعدم انفلاته قبل وصولك إلى وجهتك، عن سفع الشمس والهواء لك وأنت خارج، هذا في الصيف، أما في الشتاء فتتجمد واقفاً ولا تجازف بالشعبطة لأنها من العقوبات التي لا تحتمل ولا يصبر عليها إلا ذوو الحاجة الملحة أو الجلد العجيب، وربما من أعد عدته لمثل هذا الموقف واتخذ التدابير اللازمة.
من الرفاهيات القليلة وجود جرس يمكنك الضغط على مفتاحه ليعلم السائق أنك تريد النجاة، كذلك وجود نوافذ جانبية تسمح بتدفق الضوء والهواء صيفاً، والمزيد من البرد والزمهرير شتاءً.
واحذر في كل هذا وذاك من استلام الجباية فغالباً لن ينتهي الأمر بخير، وأنت تجمع الأجرة لرجل سيشك بأنك لم تدفع أو سرقت بعض ركابه، أو ستدخل في حسابات لا تنتهي بسبب نقص “الفكة”.
هذا الحال بشكل عام من تجارب متعددة، يذهلك بها صدمتك بأن ترى أنَّ السائق لم يصبح مسؤولاً عن نفسه أمام القانون بعد.
ومن التجارب الفريدة التي مررت بها شخصياً ما يلي:
قادتني الأقدار لركوب “الشعبوطة” لأكون من ركاب الوسط من تأخذه المكابح والمطبات ذات اليمين وذات الشمال، وبؤسه باسط ذراعيه بالوسيط، ولما غصَّ الداخل بركابه العشر وأغلق الباب بركابه الأربعة لم يجد بعض البؤساء إلا امتطاء صهوة المركبة ليكون عامل الأمان بالنسبة لهم: وزنهم وحسن قيادة السائق، وأولاً وأخيراً اللطف من رب العباد.
وعلى قصر المسافة التي ركبتها طولياً وبعدها نفسياً، راقبت مجبراً وعامداً في آن أقدام فرسان مركبتنا، حكت كعوبهم المتشققة ونعالهم المهترئة في عليائهم المؤقتة حكاية شعب كامل، شعب مكافح، وصل به اليأس أو الإحباط ركوب هذه المركبة بهذا الشكل ليحاول الوصول إلى وجهته التي ما زال سراب الأمل يتسلل بين حين وآخر ليلوح في أفق صحرائهم التي بنيت عليها هذه المدينة، ألا يوجد في هذه الحياة ما يمنعهم عن مثل هذا؟؟ سؤال ألح عليَّ ولم أجد له جواباً. لكن ما الفرق، هم فوقنا في خطر، ونحن تحتهم في أمان نسبي، لعل هذا الشعور وحده يغري أي شخص بامتطاء أي حريص على أمنه.
الملفت في الموضوع أن أحد الفرسان عندما شاهدني أصوره أشار إلي بيده مستفسراً، خالطني شعور غريب بين الإثارة بالحصول على لقطتي التي أردت وبين الخجل من استخدام بؤسهم في كتابة “مقال” لن يقرأه إلا القلة وسيضيع في تراكم الحروف اليومية… لوحت له مبتسماً، تعابيره تدل أنه لم يفهم ما عنيت، ظل يتابعني بنظراته الشاردة التي تحاول عبثاً معرفة ما أردته من صورة كهذه، وقفت خلف واحدة من الأشجار القليلة في الشارع …. تشاغلت عنه حتى لا تلتقي عينانا مجدداً، ثم تابعت طريقي وأنا إلى لحظة كتابتي هذه الكلمات أشعر بشيء يستعصي عليَّ وصفه لكنه يترك ظلاً حزيناً في نفسي.
بالنتيجة ….. من الصعب أن تكون سعيداً وأنت محاط بكل هذا البؤس.
تجربة أخرى:
قادني قيظ الصيف وبعد المسافة وجفاف الهواء للنظر إليها على أنها المنقذ من بؤس هذه الصحراء المغبرة.
تقدمتْ من بعيد كسراب يتحول إلى حقيقة، أول ما لفت نظري الرؤوس الأربعة التي ظهرت من سقفها، عادت حقيقتها سراباً، فليس لي مكان في هذا الأمل الموعود.
نعم إنها الشعبوطة … حلم كل مهاجر على محور الكفراوي، تحمل ستة عشر راكباً.
لم يطل الأمر بي حتى أطل حلم آخر ولكن هذه المرة كالجائزة الكبرى في اليانصيب، أشرت للسائق، توقف، صعدت، أنا الراكب الوحيد، أي حظ هذا وأي فخامة؟؟ لوحدي في أسوأ مركبات الأرض بعد التكتوك، وحيداً على مقعدها الخشبي الوطيء المكسو بقطعة “موكيت” حمراء كانت ممسحة للأقدام في مهرجان “كان” السينمائي الأول، سقفها الحديدي الذي يحولها إلى أتون لم يشغل انتباهي وأنا أتأملها فارغة من البؤساء إلاَّي، لم تطل فرحتي أو دهشتي حتى توقف السائق في المكان الذي كنت أقف فيه تماماً قبل سيري باتجاه موقف “الشعابيط”
نظرت إليه مستفسراً مستهجناً قال مستدركاً كل تساؤلاتي مجيباً: “خمسة ونمشي” صفعني مباشرة السقف بحرارته، اللئيم أبعدني عن الموقف حتى ينتظر ركابه هنا وأخذني غنيمة على الطريق.
حاولت ابتلاع الموقف، أطفأ المحرك، عاودني الانزعاج، ذهب إلى طرف ما يجب أن يكون رصيفاً وهو ليس إلا مساحة رملية تمتد على طول الشارع لتملأه أتربة عند كل هبة ريح، وهناك فوق المساحة الرملية “بال واقفاً” معبراً عن رأيه وفلسفته الخاصة ورؤيته لحياته، وهنا لم يعد من النزول بد، تقززاً وتململاً وغضباً.
نزلت، ركب شعبوطته بعد أن أفرغ مثانته، أدار المحرك، عاودت الركوب مؤثراً ما كنت به على تجريب حظي بشعبوطة أخرى (بضم الألف).
عددت أعمدة الإنارة المائلة حتى بلوغ هدفي، أتلهى بها عن هذا البؤس الذي تجرعته وحدي.
نزلت تقدمت من نافذته، رأيت ابتسامته التي زاد من سوئها اصفرار أسنانه من دخانه الرخيص، قذفت الجنيه في يده التي ظهر لي أنه لم يغسلها منذ أيام، ونجوت بنفسي مسرعاً دون أن أرد على ندائه لأخذ نصف الجنيه الذي أراد به إنصافي من نفسه وشعبوطته.

زر الذهاب إلى الأعلى