أدب وفن ورياضة
أخر الأخبار

مذكرات جميل الحجيلان ... بين الأدب والسياسة

مذكرات جميل الحجيلان ... بين الأدب والسياسة

مذكرات جميل الحجيلان … بين الأدب والسياسة

د. نزار العاني
مقدمة :
لأكثر من شهر ، تفرغت لقراءة مذكرات الشيخ “جميل الحجيلان”* التي تحتضن تاريخاً متلاطماً لإقليمنا العربي والإسلامي ، ولتنهض من مواطن النسيان لتقول لنا بصريح العبارة ما حدث بالأمس القريب والبعيد ، ولتحثنا على تناول خبز الأمل بصحوةٍ آن لفجرها أن يشرق ذات موعد .
كُتُب السيرة :
منذ قرأت اعترافات “جان جاك روسو” في مراهقتي المبكرة ، وقعتُ مأسورَ الإرادةِ في مصيدة هذا (الجنس الكتابي) الموصوف بالسيرة أو المذكرات .
ففي بساتين هذا الجنس الكتابي تبدو حروف الحياة نابضة بالتشويق ، مزركشة بالمعارف ، تفيض بالوقائع ، وتلتمس الحكمة ، وترصد الآتي على سنام الوقت ، والزاهية بمكنونات الذات الإنسانية وهي في صحبة الله والزمان !
سيرة الحجيلان :
مذكرات الشيخ “جميل الحجيلان” سيرة واسعة الرؤية لجدل الفرد في مواجهة الظروف والبيئة والطموح وكلمة القدر الحاسمة .
مجلدان يمتدان على حوالي 1500 صفحة من القطع الكبير ، ونصف قرن من تحولات الزمان والمكان ، بطبعة فاخرة وزاخرة بالثراء . وتتألف السيرة من 19 فصلا متفاوتة الطول وبعناوين كبيرة ، تغطي بقراءتي الشخصية للعمل ثلاثة أقسام كبرى : السيرة الشخصية ، والمناصب وحيثياتها ، والدراسات والأبحاث .
من قسم السيرة الشخصية وفقاً لتقسيمي المفترض ، يحمل الفصل الأول عنواناَ كبيراً هو ” العقيلي المغترِب” ، ويشتمل على 17 موضوعاً بعناوين فرعية صغيرة ، منها على سبيل المثال : لا أعلم متى ولدت ! ، أين أبي؟ ، الشعر في حياتنا، المعاناة ، أجمل ما كتبت .
وهذا المنهج الذكي في التناول والإعداد ، يجعلني أصف السيرة بأنها (موسوعة ألف بائية مفهرسة ) ، تتيح للقارئ أن يختار منها ما يشاء وما يشتهي من عناوين ومواضيع تهمه ليقف عندها ، وأن يتجاوز ما لا تشتهي نفسه قراءته . وهكذا ، فإن مجموع المواضيع في الجزئين الإثنين للسيرة 366 موضوعاً ، هي قصص قصيرة ، وحكايات ومأثورات ، ومقالات وخواطر ، وأخبار ومعلومات ووقائع ، ورسائل ومحفوظات، وصور من حياة الأعلام الكبار في التاريخ العربي والعالمي ، وتنتظم وترتبط جميعاً بخيطٍ سردي روائي حصيف ومحكم .
وما ذكرته عن قسم السيرة الشخصية ، ينطبق على قسم المناصب ، وهي كثيرة وعالية ، تبدأ بمواقع ومهمات إدارية ووظيفية استشارية ودبلوماسية كبيرة ( إيران وباكستان) والإعلام السعودي ( مديراً عاماً للإذاعة) ، وتمر بسفارات (الكويت ، ألمانيا ، فرنسا ) ووزارات ( الإعلام والصحة) ، وتنتهي بمنصب الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي .
حصة الكويت في المذكرات :
هناك فصلان في السيرة يتعلقان بالكويت : الأول منهما هو الفصل الثامن في الجزء الأول وعنوانه ( سفيراً لدى دولة الكويت) وينفرش على 60 صفحة . وتناوله وكتب عنه سعادة الأستاذ “عبد الله بشارة” في مقالة له نشرتها جريدة القبس . اما الثاني فهو الفصل الرابع عشر في الجزء الثاني وعنوانه (غزو العراق للكويت) وتبلغ عدد صفحاته 65 صفحة . هذا غير الفصل المعنون بـ ( أميناً لمجلس التعاون) وهو الخامس عشر ، وترد فيه أطروحات ورؤى عن الكويت ، وهذه الحصة الكويتية في المذكرات تستحق عناية أهل الديرة ، إذ يصف الكاتب سفارته الأولى في الكويت ، وعمادة السلك الدبلوماسي ، بأنها الأكثر إشراقاً وحميمية ، وحزن حين غادرها. وفي مقالتي هذه سأتناول الجانب الأدبي في شخصية الكاتب .
الحجيلان والبيئة الثقافية :
عائلة “الحجيلان” ترجع في أصولها إلى “نجد” في المملكة العربية السعودية ، وقد غادر والده تاجر الخيول العربية إلى دير الزور حيث ولد “جميل الحجيلان” و تتلمذ وتعلم أصول الإعراب وخفاياه في حضرة المقعد الضرير المُلّا أحمد . وكان الطفل “جميل” متفوقاَ وبارعاً في دراسته منذ طفولته المبكرة .
وكان الأستاذ الذي تولّى تدريسه مادة الأدب العربي في “التجهيز” علماً من أعلام أمتنا العربية والإسلامية ، وهوالشيخ “علي الطنطاوي” وكان ذلك في العام 1943 . ويكتب “الحجيلان” أن للأستاذ “الطنطاوي” الفضل في تقريبه إلى فضاء الشعر وجمالياته ، وبما كان يختار لطلابه من قصائد قومية ، لشعراء كبار مثل خير الدين الزركلي ، و(كان الشعر العربي واحداً من الدروس المفضلة لدينا ، ونحن في المرحلة الإعدادية . كنا نتبارى في القدرة على حفظ العديد من أبيات الشعر (1)
وعلى رغم محدودية مداركه الثقافية في المرحلة الإعدادية من الدراسة، أقبل الكاتب بشغف ونهم شديد على قراءة مجلة (الرسالة) ، ومن بعد ذلك قراءة كتب عمالقة الأدب العربي في النصف الأول من القرن الماضي مثل : المنفلوطي والمازني والرافعي والزيات وهيكل وطه حسين وأحمد أمين وزكي مبارك (2) .
ويروي “الحجيلان” لنا تفصيلات عن حجم المعاناة الهائلة التي واجهها لإكمال مراحل تعليمه وفق المناهج الفرنسية في مدارس سورية آنذاك ، وفحوصه الصعبة في مدينة حلب ، وبعد ذلك في مصر لمتابعة دراسته الثانوية والجامعية ، وحيرته في اختيار تخصصه الجامعي بين الأدب واللغة العربية أو غير ذلك من تخصصات تفيده في مستقبله كسعودي ، إلى أن استقر رأيه على دراسة الحقوق بعد طول مشقة ومكابدة ، حيث أنه تخرج في مايو 1950 ، لكنه ظل طوال حياته مسكوناً بهاجس الأدب ، مع اهتمامات واسعة بالسياسة والصحافة والتاريخ . ووصلت به هذه الاهتمامات لاختياره وهو في العشرين من العمر ، كي يلقي كلمة باسم الطلبة السعوديين في قصر عابدين أمام الملك فاروق ، وألقاها فعلاً ، لكن أمام رئيس الديوان الملكي نائباً عن الملك الذي اعتذر عن الحضور (3) .
الحجيلان شاعراً :
لم تكن نشأة الكاتب مريحة وميسرة ، فقد عانى من غربتين طويلتين وتحديات في سورية ومصر كما اعترف ، وفي ظروف عائلية لم تكن طبيعية بسبب غياب الوالد وزواج ثانٍ في مصر ، ورعاية والدته وجدته لأمه له .
ووفق نظرية ” توينبي” فإن الغربة والتحدي زرعت في داخله عزيمة لقهر الصعوبات التي واجهته ، وكان سلاحه في هذه المواجهة هو الزاد المعرفي والعلمي والحصيلة الثقافية العربية الإسلامية الأصيلة ، فضلاً عن الإنتماء والالتزام الناجز والإحساس الوطني العميق بما ينتظره في المستقبل و( يتغذى هذا الإحساس بما كنا نردده من شعر وطني ، نبحث عنه هنا وهناك ، في شعر خير الدين الزركلي ، وابراهيم طوقان ، وبدوي الجبل ، وأحمد شوقي ، وحافظ ابراهيم ، والبارودي ) (4) .
وفي شتاء عام 1948 زار الأمير الشاعر ” عبد الله الفيصل” دار البعثات السعودية في القاهرة ، وكان حينذاك وزيراً للداخلية والصحة ، ليتفقد أحوال الطلبة . ورغب الأمير عبد الله أن يستمع لمن نظم شعراً من الطلبة المُبتعثين ، فكان “جميل الحجيلان” من بين المتقدمين وأسمعه قصيدتين ، الأولى غزلية وعنوانها (غادرة) ، ومن أبياتها :
بارحيني ودعيني في بكايا لن ألبّي أبداً صوت هوايا
لستُ كالأمس نضيراً فشبابي أصبح اليوم حطاماً وشظايا
لم يعد قلبي صيداً مستباحاً فابحثي عن ساذجٍ جزل العطايا
حاولي جهدك أن تنسي عهوداً قد سقاها الحب من نبع رضايا
أما القصيدة الثانية فقد كانت وطنية ، وعنوانها (صوت فلسطين ) ومن أبياتها :
ياهزار الصباح ردّد ندائي وارْوِ للشرق محنتي وبلائي
واحك للنيل كم أبيت جريحا أسأل النيل نصرتي وشفائي
ثم عرّج على الحجاز ونجدٍ واسقِ نجداً من أدمعي وبكائي
في فلسطين كم تبيت نفوس في سهاد ولوعة وشقاء
دهم الخطب واستبيح حمانا وطُعِنّا بطعنة نجلاء
كما شارك الطالب “الحجيلان” في مسابقة للقصة القصيرة ، إذ كتب مأساة عاطفية عنوانها (أطياف) ، وفازت بالجائزة الأولى برأي الأستاذ الصحفي والكاتب الكبير عزيز ضياء .
ويعلق الكاتب على هذين الحدثين بقوله : (لم أكن موهوباً في نظم الشعر ، وعندما أسترجع بعض القصائد التي نظمتها وأنا طالب ابن العشرين عاماً أبتسم ، لأني أرى فيها عملا ساذجاً في حينه ، إلا أنه دفق من صخب الشباب وحماسته وعاطفيته . لم أكتب بيتاً واحداً بعد أن تخرجت في الجامعة ، ودخولي معترك الحياة ، فقد كنت الطالب “الشويعر” الذي تستثيره بعض المناسبات الوطنية ) (5) .
الحجيلان كاتباً وقاصّاً :
معترك الحياة في مسيرة طويلة في عهد سبعة ملوك مكتظة بعظائم الأمور والمحطات والمنعطفات ، تحتاج إلى مواصفات وسمات شخصية عليا توفرت معظمها لرجل الدولة والفكر والأدب “جميل الحجيلان” .
كان لديه من العتاد ما يكفي . وساهمت الظروف في التوطئة لنشاطه الكتابي ، إذ أنه عمل في الخارجية بإدارة لها علاقة بالمنظمات الدولية ، ولم تكن مسؤولياته ثقيلة في أوائل الخمسينيات : (أحببت العمل في هذه الإدارة .. كان لدي متسع من الوقت .. وكان لا بد أن أسعى لملء هذا الفراغ بما هو محبب لنفسي .. لم يكن أمامي سوى المطالعة .. لم أكتف بهذه المطالعة .. فقد استيقظت في نفسي الرغبة في الكتابة ) (6) .
ومن الكتابة العامة ، حول ما يخطر على البال ، وما يهم الناس ، في الصحافة ، ينطلق إلى الكتابة في الإذاعة والشهرة . ويعترف في البداية أنه تحاشى الكتابة في ثلاثة مواضيع ؛ هي : السياسة ، والدين ، والمجتمع (7) .
وكما سبق لي أن ذكرت عن فوزه بجائزة بمسابقة في ميدان القصة القصيرة ، فقد ذهب قلمه لمعاقرة هذا الجنس الأدبي ، وكان سعيداً بشيئين اثنين : الأول ، بالجنيه الذهبي السعودي الواحد (40 ريالا) لقاء كل قصة يقدمها للإذاعة ، والثاني ، بما يحققه وينفرد بتميزه بين زملائه الموظفين في الخارجية .
ويصف كتابته للقصة بقوله : ( كنت أكتب القصة تأسيساً على حدث من أحداث الحياة ، في التضحية ، أو الحب ، أو الشجاعة ، أو الوفاء ) (😎
وفي الجزء الأول من المذكرات ، وبدءاً من الصفحة 119 إلى الصفحة 123 ، يعيد الكاتب نشر صور من قصاصات الجرائد لمقالاته وخواطره وقصصه ، ومن عناوينها : ( يوميات شاعر ، بعد المغيب ، دماغ من ذهب ، أتذكر يا سيدي ، ليته يعود ) . ويدهشني كيف احتفظ الشيخ “جميل” بهذه القصاصات لخمس وسبعين سنة كاملة خلت ، وكيف تأتّى لذاكرته الشاسعة أن تسترجع هذا الفيض المتدفق من الذكريات .
فقد ولد أديباً واختطفته السياسة ، مثل أقرانه من الذين وضعوا قدماً هنا وهناك ، واختلاف البصمة في المكانين ، ومنهم مع حفظ الألقاب : غازي القصيبي السعودي ، أحمد الربعي ويعقوب الرشيد الكويتيين ، عمر أبو ريشة ونزار قباني السوريين ، وثروت عكاشة المصري ، ومحمد مزالي التونسي ، وليوبولد سنغور السنغالي ، وأندريه مالرو الفرنسي ، وفاتسلاف هافيل التشيكي وغيرهم …. والروابط الخفية بين الأدب والسياسة معروفة منذ أيام أفلاطون وأرسطو !
خاتمة :
كل خليجي ، وربما كل عربي ، يحب قراءة النفيس من الكتب ، لا بد له أن يتصفح بوساطة هذه الذكريات ، ما حدث في إقليمنا خلال قرن الزمان . أحداث سياسية كبرى ، حروب ومنازلات ، آمال وأحلام ، يرويها شاهد عيان عمل مترجماً للملك عبد العزيز ، وعاصر في مناصب كبيرة ستة ملوك آخرين ، ويضع بين أيدينا الكثير من الأسرار ، ومالم تذكره الصحافة في أكثر من دولة عربية وأجنبية ، ما جعل تركي الفيصل يقول عنه كما جاء في الغلاف الأخير : ( معالي الشيخ جميل الحجيلان ينطبق عليه ما قاله الأمير خالد الفيصل في إحدى قصائده مجموعة إنسان ) . والحق يقال ، هو كذلك .
لمعاليه ، كمعلّمٍ وصديق ، أتوجه بالشكر على تحمله عناء إهدائي موسوعته الأخّاذة ، ووصلتني من الرياض إلى دمشق بأبهى ما يكون الإهداء ، والتي تمتعتُ بقراءة كل سطر فيها ، وأضافت إلى معرفتي معرفة ، وإلى علمي علماً ، كما سبق أن تمتعت بكل لقاء شخصي جمع بيننا في الرياض وفي فرنسا وفي الكويت ، على مدى ستين سنة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* جميل الحجيلان …مسيرة في عهد سبعة ملوك ، شركة رف للنشر ، الرياض ، المملكة العربية السعودية ، الطبعة الأولى 2024 .
1 – المرجع السابق ، الجزء الأول ، صفحة 37 .
2 – م س ، صفحة . 39
3 – م س ، صفحة 94
4 – م س ، صفحة 51 .
5 – م س ، صفحة 102 .
6 – م س ، صفحة 114 و 115 .
7 – م س ، صفحة 116 .
8 – م س ، صفحة 116 .

 

زر الذهاب إلى الأعلى