سورية والعالم

من حكم بالصرماية لا يُخلع إلا بها

من حكم بالصرماية لا يُخلع إلا بها

من حكم بالصرماية لا يُخلع إلا بها
خاص بأوكسجين – شادي خرماشو

مات أبي مقهوراً مكسور الظهر.
لفظته الحياة وجافاه الموت.
حلم أن يمتلك بيتاً، وأفنى عمره في سبيل ذلك بلا جدوى.
عمل موظفاً في شركة الأخشاب.
كان دوامه يبدأ عند الثامنة صباحاً وينتهي عند الثانية ظهراً.
أرى نفسي الآن وأنا أنتظره كل يوم أمام مدخل المبنى عند الثانية والنصف وأترقب وصول الحافلة التي تقلّ الموظفين ليترجل منها أمام المؤسسة الاستهلاكية على الجانب الآخر من بيتنا.
كانت تلك لحظة فرح يومية بالنسبة إلي… رؤية أبي بشعره الطويل وكرشه البارز ينتظر خلو الشارع من السيارات ليعبر إلي ويقبّلني على عجل. كنت أجلس بقربه عند وصوله لأشم رائحته وأنعم بالأمان بقربه.
كان أبي قاسياً، يعني “ايده والكف”، وهذا مبرر بحكم نشأته وحظه العاثر، إذ لم نكن نحن، أبناؤه وزوجته، العائلة الأولى التي يربيها ويطعمها، فقد استشهد جدي في حرب العام 1967 عندما كان والدي بعمر الـ18 ليتكفل برعاية إخوته وأمّه، أضف إلى ذلك أنه كان يعمل في مهنة تركيب الستائر إلى جانب وظيفته الحكومية ليؤمن لنا كفاف يومنا. كان مسحوقاً متعباً لا وقت لديه للحياة، لكني كنت أرى في عينيه جذوة حياة تشتعل مساء كل ثلاثاء، إذ كان يخرج من المنزل مرتدياً أفضل ما لديه ليعود بعد ساعة ونصف فرحاً ومعتداً بنفسه. كان بعثياً عتيداً لا يفوّت اجتماعاً للحزب.
إلى أن أتي ذلك الثلاثاء الذي عاد فيه متجهماً وحانقاً ومكتئباً، ويقاتل ذباب وجهه تماماً.
انطفأت تلك الجذوة.
شعرت به قد فقد الأمل.
كان يبحث عن أي حجة ليفرغ غضبه.
ولم أعرف السبب إلا في اليوم التالي، عندما أتى صديقه ميشيل سمعان أبو نضال لزيارته.

عجبك يا بو نضال.
خير شو فا.
مبارح باجتماع الحزب، عم نحكي ع دور الحزب، والسلبيات وأبعرف شو.
واحتد النقاش، قام نط أمين الحلقة وقال: “بلا حزب بلا خرى! اللي بدو يقرّب ع سيادة الرئيس بدنا نلعن اللي خلفو…”
يضحك أبو نضال
يطعمك الحج والناس راجعة…
من يومها خبت جذوة الحياة في عيون أبي، ولم يبقَ منه سوى ذلك الإنسان المسحوق الذي يهرب من الفقر كل يوم دون أن ينجح في الفرار منه يوماً.
توقف عن الخروج يوم الثلاثاء، وغرق في الصمت فترة طويلة، وتابع حياته كمناضل مكلوم.

بعد ما يقرب العامين من تلك الحادثة، انتقلت امرأة غريبة إلى حينا، وسكنت في منزل يطل شباكه على الشارع مباشرة، وكان أحد شباب الحارة يتردد عليها، ويتخذها صاحبةً له.
كان والده ضابطاً له صولة وجولة في حارتنا.
عامل يشتغل على عربة يجرها بغل لنقل مواد البناء، يسمونه “الطنبرجي”، كان يتجول قرب شباك منزلها، ويرسل إليها إشارات ويلّوح لها.
فما كان من شباب الحارة إلا أن اجتمعوا عليه بزعامة صاحبها وانهالوا عليه ضرباً وإهانة، وليرد الأذى عن نفسه، ما كان منه إلا أن صرخ:
“يا شباب والقرآن ما لي علاقة، المستورة وعدتني تشوفني بالشيخ ضاهر عند تمثال السيد الرئيس، صرمايته على راسي”.
عندما سمع أبي بتلك الحادثة تمتم وكأنه يتحدث لنفسه: “كنّا بسيادته صرنا بصرمايته”
*الشيخ ضاهر ساحة مشهورة في اللاذقية
بعد كفاح طويل، ونضال مرير، تمكن أبي من شراء بيت “على العضم”.
سحب قرضاً من البنك، وأضاف إليه تعويض نهاية خدمته من عمله الحكومي، واستدان من هذا وذاك ليُكمل ثمنه.
وإثر خلاف مع المقاول الذي استخدمه لإكسائه، دخلا في شجار بالأيدي فما كان من المقاول إلا أن دفعه بقوة من فوق سلم حديدي ما أدّى إلى إصابته بكسر لا يجبر في قدمه، تطلّب وضع صفيحة حديدية وتسعة براغٍ في عظم ساقه.
لبث في المستشفى لمدة شهر بسبب مضاعفات الكسر الذي أثر على صحته بصورة لا يمكن علاجها في سنّه المتقدّم.
أذكر كيف كنت جالساً بقربه في مستشفى الأسد عندما جاء أبو نضال لزيارته بالرغم من حالته الصحية السيئة، فقد أصيب الآخر بمرض في القلب أقعده في المنزل.
مينو هالكلب اللي عمل فيك هيك
واحد صرماية أجلّك الله
والله إذا صرماية معناها ما فيك عليه
رغم الألم والحسرة، ضحك أبي.
غادرت البلد في 2005 بعد جهد جهيد، فررت بأعجوبة من الخدمة الإلزامية.
وكنت أحرص على العودة كل عام لرؤية أهلي والأصدقاء.
كانت صحة أبي تتراجع كل عام، خاصة بعد أن صدمته سيارة قضت على ما بقي في جسده من قدرة على الحياة.
اندلعت الثورة بعد ذلك، وشهدت اللاذقية مظاهرات وأحداث كثيرة. وبعد أن هدأت الأمور، عدت إليها بعد سنتين من الغياب.
كان أبي في حالة صحية سيئة للغاية ولم يبقَ له من الدنيا إلا التضرع للموت ليرحمه.
حتى أبو نضال غدره وفارق الحياة.
عندما سألته عن رأيه في ما يحدث، قال:
والله يا بيي أغلبين عملاء وقابضين.
اساتك بتحكي هيك يا بو؟
شو بدك ياني قلك، عم نشوف بالتلفزيون.
أي تلفزيون؟
بلا هالحكي يا بيي هلا.
ليش يا بو ليش؟
بلالك هالصرعة قول هيك أريح لك.
بكرة بيمسحين بالصرماية.
ما مشي حال الصرماية يا بو.
الله يستر هالبلد!
لم يستر الله البلد.
فارق أبي الحياة في 2015.
لم يعرف من هذه الدنيا سوى الحزب الذي خيّب أمله، والأب القائد وابنه، والصرماية.
لم يعرف معنى الحرية، أو الأمل.
عندما مات لم أبكِ فقط لفراقه، بل بكيت على حياته، على كل يوم عاشه.
على كل حلم دفنه.
واليوم أسأل نفسي ما الذي كان سيقوله بعد ما حدث.
ربما كان سينسى خوفه قليلاً ويقول:
“من حكم بالصرماية لا يُخلع إلا بها.”

زر الذهاب إلى الأعلى