من الريح إلى الأمواج بين الخُرافة والحَقيقَة مُعتَقَدات بَحرية غاية في الغَرابَة
من الريح إلى الأمواج بين الخُرافة والحَقيقَة مُعتَقَدات بَحرية غاية في الغَرابَة

من الريح إلى الأمواج بين الخُرافة والحَقيقَة مُعتَقَدات بَحرية غاية في الغَرابَة
مقدمة:

د. مصطفى كريدلي
لطالما ألهم البحر، بامتداده الهائل وغموضه، مشاعر الهيبة والخوف والتقديس. وأمام قوته الهائلة التي لا يمكن السيطرة عليها، طَوَرَ البَحارة عبر التاريخ مَجموعة من المُعتقدات والخرافات التي شكلت سُلوكهم ومَنَحتهم شعورًا بالطمأنينة النفسية. هذه العادات البحرية تنبع من قرون من التقاليد الشفهية والتجارب الحياتية ومحاولات لفهم أو التأثير في عناصر الطبيعة غير المتوقعة. وعلى الرغم من عدم استنادها إلى العلم، فإن العديد من هذه المعتقدات متجذرة بعمق في الثقافة والممارسات العَملية البحرية ولا يزال الكثير جداً من البحارة في كل انحاء العالم يؤمنون بها حتى اليوم.
1 – الصَفير على ظهر السفينة دعوة للعاصفة:
من بين أشهر الاعتقادات البحرية هو أن الصَفير على متن السفينة يمكن أن يستدعي الطقس العاصف. فقد كان يعتقد البحارة عبر العصور أن الصفير هو بمثابة تحدي للريح ويُفسر على أنه تعبير عن الغطرسة أو قلة الاحترام أو الاستخفاف تجاه عناصر الطبيعة. واعتقد البحارة أن مثل هذا التصرف قد يُغضب أرواح البحر أو آلهة الرياح، مما يؤدي إلى رد فعل عنيف يتمثل في سوء الأحوال الجوية.
والمفارقة هنا أن بعض البحارة ممن كانوا يعملون على السفن الشراعية كانوا يعمدون إلى الصفير عمدًا في أوقات السكون التام للرياح، في محاولة لاستدعاء الرياح بهدفملئ اشرعة سفنهم، وذلك من خلال مزيج غريب من المشاعر التي كانت تتراوح بينالرَهبة والخوف والرجاء والأمل.
أما المفاجأة في الحالتين فإن هذا الاعتقاد وفق السجلات التاريخية التي دونها العديد من البحارة القدماء على اختلاف رُتَبِهم كانت نتيجته صحيحة وحقيقية دون ان يستطيع العلم إيجاد تفسيرا عِلمياً لهذه الظاهرة الغريبة او العلاقة التي تربط ما بين التصفير على متن السفينة واستفزاز الرياح!!!
2 – رؤية السلحفاة البحرية على سطح البحر
احدى أغرب الاعتقادات في بعض التقاليد البحرية، خصوصًا لدى البحارة في مناطق البحر المتوسط وشرق آسيا، يُعتبر رؤية سلحفاة بحرية تطفو على سطح البحر هو بمثابة نذير شؤم، يُنذر بوقوع كارثة، أو مرض، أو حتى وفاة أحد أفراد الطاقم. ولتفادي هذا المصير، كان يجب على البحار أو ضابط الملاحة الذي رأى السلحفاة أن يبصق ثلاث مرات على الجانب الأيسر من جسده، كتعويذة لطرد الطاقة السلبيةالتي تسببها رؤية السلحفاة او ابعاد الكارثة بينماالرقم ثلاثة(في البصق) والجانب الأيسر من الجسم فإنهما يرمزان في كثير من الثقافات حول العالم بشكل خاص (اقصى الشرق) إلى الحماية والتطهير الروحي، ويُستخدمان ضمن طقوس درء النحس.
والمفاجأة هنا أيضا ان هذا الاعتقاد بعد مُعايشته من قبل العديد من الربابنة وضباط المِلاحة أو البحارة حول العالم ممن شاهدوا السلحفاة البحرية تطفو فوق سطح البحر كان صحيحاً وحقيقياً دون ان يجد العلم تفسيرا لهذه الظاهرة الغريبة ايضاً.
3 – شكل الهلال في السماء والتنبؤ بالطقس:
هناك اعتقاد راسخ لدى العديد من البحارة بأن وضعية الهلال في السماء تنبئ بحالة الطقس القادمة فعلى سبيل المثال:
– إذا كان شكل الهلال أفقياً (على شكل وعاء أو مُستلقياً) فيقال عنه أن (يحتفظ بالماء) مما يُشير الى قدوم طقس سيء أو أمطار واجواء عاصفة.
– أما إذا كان شكل الهلال عَمودياً (يشبهالوعاء المائل) فيقال عنه أنه قد (سكب مياهه) مما يدل على ان الطقس القادم سيكون جيدا وهادئاً.
وعلى الرغم من أن هذه المعتقدات لا تستند فعلياً إلى أي باب في علم الأرصاد الجوية، فإنها اثتبتت في معظم المشاهدات التي تمت من قبل الكثير من البحارة في العالم انها صحيحة وحقيقية فهي في النهاية تمثل محاولات بديهية من البحارة لفهم بعض الظواهر الطبيعية.
هناك قول يوناني شائع في هذا الاعتقاد يؤمن به البحارة اليونانيين حتى اليوم يقول: (إذا كان الهلال واقفاً (أي بشكل عمودي) فالربان مُستلقي وإذا كان القمر مُستلقيا (أي بشكل افقي) فالربان واقفاً.. وهذا دلالة على نوع الحالة الجوية المرتقبة القادمة.
4 – العلاقات الجنسية بين الرجال على متن السفينة وغضب البحر
من بين أكثر الاعتقادات إثارة للجدل هو أن ممارسة الجنس بين الرجال على السفينة يعتبراستفزازاًلغضب البحر ويؤدي إلى حدوث عواصف وأمواج عاتية ويعودهذا الاعتقاد الذي وُجد في بعض الثقافات البحرية الأوروبية والشرقية انه كان يُستخدم كوسيلة لفرض الانضباط والحفاظ على القيم والاخلاقيات السوية بين أفراد الطاقم خلال الرحلات الطويلة.
ففي الميثولوجيا اليونانية، يُعرف (بوسيدون – Poseidon)، على انه إله البحر عند الاغريق القدماء، وهو ذو طبع حاد وسريع الغضب ومتقلب، وأن (الانحرافات الجنسية)كانت تُثير غضبه واستيائه على نحو جنوني، مما يدفعه لإحداث الفوضى في البحر وحتى في بعض الأحيان لإغراق السفن.
وعلى الرغم من أن هذا النوع من الفواحش مُحَرم في الأديان السماوية ومنبوذ ومكروه في العديد من الثقافات حول العالم سواء كان من يمارسه على اليابسة (الأرض) او في البحر الا ان هذا الاعتقاد بقي موجوداً حتى يومنا هذا وقد تم الاخبار عنه من قبل العديد من البحارة انه حقيقي وواقعي مع الأسف.
5 – تغيير اسم السفينة هو دعوة للموت
يُعتبر تغيير اسم السفينة من أكبر المحرمات في تقاليد البحر. فقد كان يُعتقد قديما أن اسم السفينة مسجل في (سجل أعماق البحار عند إله البحر بوسيدون- Poseidon)، وتغيير اسم السفينة يُعد مسحًا لهويتها من ذلك السجل دون إذن أو موافقة (بوسيدون)، مما يجلب الحظ السيئ أو الكوارث حتى الغرق لتلك السفينة.
ولتفادي هذا المصير، يُقام طقس تطهيري خاص يُسمى (مراسم إزالة الاسم)، حيث تُقدم الخمر أو الكحول للبحر وتُطلب المغفرة من (بوسيدون – Poseidon) قبل إطلاق الاسم الجديد رسميًا ولا يزال هذا الطقس التطهيري مُتبعاً حتى يومنا هذا عند العديد من الثقافات في العالم.
6 – طائر القطرس: الحامي والمبشّر
يُعتبر طائر القطرس (Albatross) رمزًا مقدسًا في الموروث البحري، ويُعتقد أنه روح بحار غارق أو حارس للسفينة. وقتل هذا الطائر يُعد من أكبر الاستفزازات دعوة للنحس، وقد يؤدي إلى موت أحد أفراد الطاقم أو غرق السفينة، وهذا الاعتقاد القديم كان قد ورد في قصيدة للشاعر والفيلسوف الإنكليزي (صَمويل تايلر كوليردج ) والمعروف باسم: (Coleridge’s) في قصيدته (البحار القديم – Ancient Mariner).
7 – فاكهة الموز على السفينة: فاكهة الشؤم
قد يبدو الأمر غريبًا، لكن الموز يُعتبر فألًا سيئًا على السفن، خاصة سفن الصيد. ويعود هذا الاعتقاد إلى أن سفنًا عديدة غرقت أثناء نقلها شحنات الموز، أو لأن فاكهة الموز تفسد بسرعة وفسادها يجذب الحشرات، مما يؤدي إلى تفشي الأمراض. كما يُقال أيضاً إن الموز يخيف الأسماك ويبعدها وهذا ما يعني ان عملية الصيد ستكون فاشلة وبلا فائدة.
8 – النساء على ظهر السفينة: الفتنة والخطر
في الماضي البعيد، كانت النساء يُعتبرن مصدر نحس على السفينة، ويُقال إن وجودهن لم يكن يُغضب البحر وحسب بل ويصرف انتباه البحارة عن مهامهم المختلفة والمفارقة هنا أن بعض السفن القديمة التي كانت تُبنى ، كانت تُنحت تماثيل نساء عاريات الصدر على مقدمة تلك السفن، في تناقض غريب، فسره البحارة القدماء أنه بغرض تهدئة غَضب البحر وابحار السفينة بأمان.
9 – الشخص المنحوس على السفينة يلقب ب يونان
في التقاليد البحرية القديمة،كان يُطلق على أي شخص يُلام في سلسلة من سوء الحظ أو يجلب الحظ السيء لقب (يونان) في إشارة الى النبي التوراتي (Jonah)الذي تسبب وجوده على متن السفينة في احداث العواصف وإذا استمرت المصائب بوجود هذا الشخص، فإنه كان يُطرد من السفينة أو يُلقى عليه اللوم بشكل علني و يتم الحجر عليه منفرداً وفي بعض الحالات التاريخية، كان يتم التخلص منهفعليًا لا مجازياً وذلك بإلقائه في البحر.
10 – العملات تحت الصاري: دفعة لعالم الأرواح
خلال بناء السفن، كان يُوضع عملات معدنية تحت الصاري الرئيسيللسفينة كنوع من الطقوس التقليدية. هذا الطقس يُعد تقدمة (لشارون–Charon)،وهو سائق قارب الأرواح في الأساطير اليونانية، لضمان سلامة ابحار السفينة ومن عليها أو حماية الركاب في حال موتهم في البحر. ولا تزال بعض شركات السفن الحديثة تُمارس هذا التقليد اليوم كرمز للحظ والسلامة.
الخاتمة:
تمثل اعتقادات البحارة حول العالم تراثًا ثقافيًا غنيًا تشكل بفعل الوحدة والعزلة، والخطر، والاحترام العميق لقوة وهيبة البحر. ورغم أن العلم والتكنولوجيا قد فسّرا الكثيرً من الظواهر الطبيعية، إلا أن هذه المعتقدات لا تزال حية ويؤخذ بها بشكل جَدي كقوانين غير مكتوبة لكنها مُلزمة وضرورية لا باعتبارها بقايا من الماضي، بل كتقاليد حية تُضفي المعنى والتنظيم والطمأنينة على الحياة البحرية.
فالبحر والابحار، في نهاية المطاف، هما رحلة تحدي نفسية وروحية بقدر ما هي مادية وفي السكون الذي يفصل بين الأمواج، تعيش الحكايات والاعتقادات البحرية التي قد تبدو على قدر كبير من الخرافة لمن يعيش على اليابسة ولكنها في غياهب البحر يعيشها البحارة وبنفس القدر حقيقة مادية ملموسة.
بقلم: الكابتن البحري ورُبان أعالي بحار
مصطفى كريدلي
تاريخ تحرير هذا المقال: 22 أيلول – سبتمبر 2023
(جنوب المُحيط الأطلسي)
ملاحظة: (تم نشر هذاالمقال واللوحات المرفقة معه في مجلة “صوت الربابِنة” الصادرة عن اتحاد ربابنة أعالي البحار اليوناني وكذلك في مجلة “الدنيا” الالكترونية السورية).
المصادر
- Hutton, Ronald. The Stations of the Sun: A History of the Ritual Year in Britain. Oxford University Press, 1996.
- Kemp, Peter. The Oxford Companion to Ships and the Sea. Oxford University Press, 2005.
- Coleridge, Samuel Taylor. The Rime of the Ancient Mariner. 1798.
- Ingram, Edward. “Maritime Superstitions of the Mediterranean.” Journal of Maritime Folklore, vol. 12, 1983.
- Bane, Theresa. Encyclopedia of Superstitions. McFarland, 2016.
- Rawson, Geoffrey. The Sea and the Superstitions of Sailors. Nautical Press, 1962.
- Baynham, Simon. “Bananas and Bad Luck.” Mariner’s Quarterly, Summer 2004.
- Williams, John. Superstitions of the Sea. Harper & Row, 1979.
- Goldsmith, Peter. Of Ship and Sailor: Maritime Traditions and Superstitions. SeaLore Publishing, 1992.
- Smithsonian Ocean Portal. “Sailors’ Superstitions.” Smithsonian Institution, ocean.si.edu