وداعا أيها الملل – د. نزار العاني
هذه المقالة كُتبت حين كنت في الكويت عام 2011 ، أهجو بها الذين يتربعون على كراسي الحكم ، ويستأثرون بالسلطة ، ولا
يشعرون بالملل ، كما نشعر نحن المحكومين بالملل من مقاماتهم وصورهم وأساليبهم .
يزهق المرء من قميصه ، ومن حذائه ، ومن حلاقه ، ومن تمشيطة شعره ! وعلى سيرة الحلاق ، فقد رأيت بأم عيني في دير الزور ، وفي دكان حلاق أسرتنا (بدّور الحلاق) ، ابن حسّون ، كم مرة بدل (بدّور) الصور : حسني الزعيم ، سامي الحناوي ، أديب الشيشكلي .
ومن الصعب العد بعد ذلك ، بعد أن اقتدى عبد الناصر بنا وتعلم منا ، وهو بدوره علم الآخرين. ومن حظي إنني بلغت الثالثة والثمانين ورأيت بأم عيني كل هذه المعجزات السورية كمتوالية جسابية ناجزة ، وفي كل مرة يحتدم الجدل بين السوريين ، كما الجدل بن أثينا وأسبرطة ، والتي التهمهما الرومان ، وتقوم أمبراطورية لتكسرها واحدة ثانية .
وداعا أيها الملل
عنوان زاويتي هو عنوان كتاب شهير للكاتب الراحل أنيس منصور الذي أكن له تقديرا ثقافيا وأدبيا وليس سياسيا ، واستعرته لأن الكتاب يحدثنا عن شخص أسطوري اسمه تنتالوس لابد أنكم سمعتم به أو عرفتم شيئا عن قرينه سيزيف! الأخير، عاقبته الآلهة بحمل صخرة من سفح جبل إلى قمته ، وكلما أنجز ذلك تدحرجت الصخرة إلى القاع ليبدأ سيزيف برفعها من جديد وهكذا دواليك . شيئ مضجر وعبثي ومميت ! تنتالوس له حكاية أخرى تتماهى مع الأولى.
هذا المواطن اليوناني التعيس قضى عمره مثل سيزيف معلقا في غصن شجرة داخل غرفة مغلقة ترتفع بها سوية الماء قليلا قليلا حتى يكاد يختنق تنتالوس ، وفي تلك اللحظة الفاصلة ينحسر الماء ، وأيضا ، هكذا دواليك .
شيئ ممل وغبي ومأساوي في آن معا !
من البلادة بمكان أن تتكرر حكاية ما إلى الأبد .
الأبدية تتنافى مع مقولة هيراقليط حول حتمية التغير :” نحن لانسبح في نهر واحد مرتين … نحن نتغير وماء النهر يتغير ” . فلماذا ، وفي السياسة العربية تحديدا ، حكّاما ومواطنين ، يراد لنا أن نكون نسخا مكرورة من سيزيف وتنتالوس ، نعيد فصولا من ملهاة أو مأساة معروفة الفواتح ومعروفة الخواتم .
معظم الأنظمة العربية ، القديمة منها والحديثة ،هي أنظمة انقلابية .
الحاكم / المواطن العربي سيزيف ، والقائد / التابع تنتالوس ، يدورون في حلقة تاريخية مضجرة وموسومة بالتكرار والملل ! عبد العزيز آل سعود انقلب على آل الرشيد ، وبمنطق السيف لا القلم .
وتتكرر الحالة الإنقلابية عبر عبد الناصر على الملك فاروق ، عبد الله السلال في محاولتين اثنتين على الإمامين يحيى وابنه البدر إحداهما فاشلة والثانية ناجحة ،عبد الكريم قاسم على الملك فيصل ، ولكم بعد ذلك أن تحصوا العديد من الصخور السياسية العربية التي ارتفعت إلى القمم الشامخة على يد العقيد سيزيف ، وأن تعدّوا أكثر من تنتالوس حاصرته سيول السياسة الدولية : أحمد بن بلا وخلفه بومدين ، الملك فيصل على أخيه سعود ، السلطان قابوس منقلبا على أبيه ، جعفر النميري ولاحقا البشير ، صدام حسين على البكر ورفاقه ، القذافي ، بن علي ، الجنرال محمد زياد بري ، الفريق أمين الحافظ ولاحقا آلت سلطة الإنقلاب بحركة تصحيحية إلى حافظ الأسد ، الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني على أبيه ، علي عبد الله صالح . المهم ، انقلابيون بالجملة ، ومغدورون غيلة ً أو إعداماً بالجملة أيضا وأيضا : الملك فيصل ،المسموم ياسر عرفات ، عبد الناصر الذي قيل أنه (تُرك يموت ) ،صدام حسين ، معمر القذافي ، أنور السادات ، والحكاية هي هي ، جنرالات تذهب وجنرالات تعود ، والحالة الإنقلابية تبعثر قوى هذه الأمة المغلوبة على أمرها والمحكومة بقانون يقضي بحمل صخور العناء والشقاء أو الإختناق بماء الفساد والجهل والرعونة .
أمة لا شفاء لها من داء الحاكم الفرد المطلق الذي لا قبله ولا بعده .
أما آن لهذه الأمة التي لا تعرف الطريق إلى اكتشاف ذاتها أن تستيقظ يوما كي تتخلص من آفة الصولجان ومن لعنة الأكفان ؟؟ بلى ، فقد تحركت الشعوب في أكثر من قطر ودولة إذ ضاق صدرها من طول إقامة الحكام في قصور السلطة . بلى ، هناك ألف مطلب ومطلب محق وعادل لهذه الشعوب ، ولكن هناك الملل أيضا ، أي حين يمل المحكوم من صورة الحاكم فينتفض ، أياً كان هذا الحاكم ، حتى ولو كان الخليفة عمر بن عبد العزيز . ترى ، ألا يحس الحاكم بعد ثلاثة أو أربعة عقود من جلوسه على سدّة الحكم بالملل ؟؟ أليس من المنطقي أن يتوقف تعذيب سيزيف العدناني وتنتالوس القحطاني ليقولا معاً وبصوت عال : وداعا أيها الملل .
لقد بلغ محمد حسني مبارك الثالثة والثمانين حولاً وهو الحاكم الأوحد ولم يسأم كما توقع زهير بن أبي سلمى . لماذا كل هذا الصمم ؟؟ إن المرء الذي لا يحس بالملل والسأم ، مهما كان موقعه ، فوق أو تحت ،هو كائن معطوب .
وبالنسبة لكاتب هذه الآهة المجروحة والسوري حتى العظم ، أحلف بالله وبكسر الهاء أن الملل أخذ مني كل مأخذ وأتعبني من ثقل صخرة النظام على كتفيَ ، وإنني أكاد أغص وأغرق بسبب سيول ماء المعارضة الغاضبة ، وبودي ( أنا السيزيف الصابر والتنتالوس الحائر ) أن أرفع عقيرتي وأقول : كفاكما معاً ، سيقتلني الضجر من هذه الحالة المستعصية التي لا أرى في الأفق حلاً لها .
وداعا لكل من لا يشعر معي بالملل ! إن ما يحدث هو شيئ مضجر وعبثي ومميت وممل وغبي ومأساوي.