أدب وفن ورياضة

يوم خروج «هيكل» من «الأهرام»

يوم خروج «هيكل» من «الأهرام»

يوم خروج «هيكل» من «الأهرام»

رجب البنا
رجب البنا

مساء يوم ٣١ يناير عام ١٩٧٤ ذهب هيكل لوداع الرئيس الفرنسى فرانسوا ميتران وكان يزور مصر بدعوة من هيكل، وعندما عاد فى الليل تلقى اتصالًا يخبره بصدور قرار من السادات بتعيينه مستشارًا للرئيس وتعيين الدكتور عبدالقادر حاتم رئيسًا لمجلس إدارة الأهرام.. وفى الصباح- أول فبراير- اتصل هيكل بالدكتور حاتم ودعاه للحضور لتسلم مهمته الجديدة، وجمع مجلس الإدارة ومجلس التحرير وأعضاء اللجنة النقابية وقدم لهم الدكتور حاتم وسلمه تقريرًا عن الموقف الاقتصادى للأهرام وتوزيعه وأرباحه.

مبكرًا جدًا فى هذا الصباح دخلت الأهرام فوجدت حالة من الوجوم والحزن تخيم على الجميع، وفى موعده اليومى.. التاسعة تمامًا.. دخل علينا هيكل كالعادة بخطواته السريعة وفى يده السيجار، وكانت صالة التحرير مزدحمة بمئات الصحفيين والموظفين والعمال، وقال: إن الأهرام لابد أن يستمر وإلا فإنه يكون قد فشل فى بنائه كمؤسسة، وإنه يثق فى قدرة الجميع على تقدير الموقف وتحمل المسؤولية، والتعاون مع الدكتور حاتم لاستمرار ما تحقق فى الأعوام الماضية.

وفى جو من الوجوم والصمت خرج بخطوات سريعة من صالة التحرير دون أن يلتفت إلى الوراء.. وفى طريقه تلقى اتصالا من وزير شؤون رئاسة الجمهورية يبلغه بأنه تم إعداد جناح فى قصر عابدين من خمس غرف، ويمكن انتداب سكرتارية له من الأهرام، وكان رد هيكل: لن أذهب إلى عابدين!

وقال هيكل بعد ذلك إن أعدادًا من المسؤولين والأصدقاء تقاطروا على بيته يحاولون إقناعه بقبول المنصب- بدرجة وزير- وكانت إجابته: إنه الرئيس. وهو وحده صاحب الحق فى القرار، ولست أول من يخرج من منصبه، فكثيرون قبلى خرجوا من الصحف.. وفى نفس اليوم أصدر الرئيس السادات قرارًا بتعيين الأستاذ على أمين مديرًا لتحرير الأهرام، وفى المساء ظهر الأستاذ على أمين فى أحد برامج التليفزيون وسُئل: ماذا ستفعل للأهرام؟ فأجاب: سأجعله يلبس ملابس داخلية. وكانت هذه العبارة عود الكبريت الذى أشعل الغضب بين جميع المحررين الكبار والصغار وازدحمت صالة التحرير مبكرًا فى صباح اليوم التالى بحشد من الصحفيين والموظفين والعمال وهم فى حالة من الانفعال والغضب لم يسبق لها مثيل، ولم يجد الدكتور حاتم إلا أن يحضر مع الأستاذ على أمين ويحاول تهدئة المشاعر، ويقول إن الأستاذ على أمين لم يقصد الإساءة إلى الأهرام أو إلى من فيها، ولكن كلماته تبددت وسط صياح الحاضرين، ووقف لطفى الخولى- وهو أيضا يمسك السيجار بيده- ويقول إن هذا الكلام مرفوض، ووقف محمد سيد أحمد وتحدث بانفعال عن كرامة الأهرام والعاملين فيها، ولولا حكمة الدكتور حاتم لحدث ما لا تحمد عقباه.

فى اليوم التالى بدأت الصحف العالمية تنشر خبر عزل هيكل كموضوع رئيسى فى الصفحات الأولى، وكانت افتتاحيات جريدة الموند الفرنسية، والتايمز البريطانية، وواشنطن بوست الأمريكية، ودى فليت الألمانية تعليقًا على إقالة هيكل. ونشرت مجلة الشؤون الخارجية (فورت أفير) دراسة عن هيكل ودوره فى الصحافة والسياسة ومكانه إلى جانب عبدالناصر وقالت إنه كان مؤثرًا بل كان شريكًا فى القرار والسياسة المصرية كما لم يحدث لأى صحفى من قبل، وكتب إدوارد شيهان فى كتابه أن كسينجر كان له دور فى خروج هيكل لمعارضته اتفاقية فك الارتباط مع إسرائيل، وقبل ذلك قال السادات لرؤساء تحرير الصحف المصرية فى اجتماعه بهم يوم ١٨ يوليو ١٩٧٢ إن الرئيس السوفيتى بدجورنى طلب منه فى سنة ١٩٧١ إخراج هيكل من الأهرام لأنه معادٍ للسوفييت! وبدأت الصحف فى نشر شائعات عن أن هيكل يعد لإصدار صحيفة فى الخارج.

يقول هيكل: بعد ذلك بدأت حملة شعواء على عبدالناصر، منها اتهامه بقتل الدكتور أنور المفتى لأنه اكتشف جنونه(!)، وأن السد العالى هو بداية استعمار الاتحاد السوفيتى لمصر، وأن مساندة مصر لحركات التحرر فى العالم العربى وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ليست إلا سفاهة وإهدارًا للطاقة والأموال لمجرد الحصول على الزعامة، ويقول هيكل: لم يكن بى خوف من ظهور الحقيقة وكشف الأكاذيب ولو بعد حين، وعزلت نفسى فى بيتى وركزت جهدى فى إعداد كتاب (الطريق إلى رمضان) عن مصر من سنة ١٩٦٧ حتى حرب أكتوبر ١٩٧٣.. وانهالت الاتهامات على هيكل، وفى هذه المرحلة تم حشد الكتاب للهجوم على هيكل بالحق وبالباطل وهو لا يملك الرد، وهذه المرحلة تحتاج إلى مقال آخر، وجرت مياه كثيرة فى النيل حتى أواخر سنة ١٩٧٤ فتوقفت الحملة فجأة، وعادت الصلات بين هيكل والسادات، وعاد يكتب خطب السادات والقرار الاستراتيجى لحرب ٧٣، وكان أثناء الحرب هو المدنى الوحيد فى غرفة العمليات، وكان يتابع المعارك مع رئيس الأركان، ولكن بعد ذلك ساءت العلاقات مرة أخرى عندما رفض هيكل طلب السادات أن يكتب دفاعًا عن اتفاق فض الاشتباك فعادت الحملة والاتهامات تنهال على هيكل فى كل الصحف بما فيها الأهرام وشارك فيها بعض تلاميذه ولفقوا له اتهامات لا أساس لها، وبعد رحيل السادات عادوا ليكتبوا عن عبقرية هيكل، ولم يرد هيكل وقتها على الهجوم ولكنه بدأ كتابة مقالات منتظمة لمجموعة من الصحف العربية، جمعها بعد ذلك فى كتابه (لمصر لا لعبدالناصر) وجمع سلسلة مقالات أخرى فى كتاب بعنوان (حديث المبادرة) شرح فيه حقيقة الخلاف بينه وبين السادات، وكان ملخصه أن السياسة لم تكن على مستوى الانتصار العسكرى.. وكان رد السادات إعداد قانون العيب الذى اشتهر باسم (قانون هيكل).. وبهذا القانون أحيل هيكل للتحقيق أمام المدعى الاشتراكى، وبدأ فصل جديد.. وهذا حديث آخر.

زر الذهاب إلى الأعلى