
أحياناً.. الزمن هو الحل

تحفل الحياة بكثير من المفارقات والمواقف المتناقضة، ولا سيما عندما تتعلق تلك الحياة وتدور أحداثها على مسرح مهنة مثل مهنة المحاماة، كثيرة التشعّب؛ متنوعة العلاقات مع مختلف أصناف وأطياف وطبقات المجتمع والناس.
راجعني موكلي مساءً في المكتب، وهو ابن عائلة كريمة؛ ذو أخلاق وشهامة، وكان يومها في مقتبل العمر حاملاً بيده ورقة أعطاني إياها بعد السلام والسؤال عن الحال قائلاً لي:
تفضل يا سيدي الزوجة المحترمة أقامت ضدي دعوى تطلب فيها الطلاق، وهي ما زالت في فترة النفاس!
أمسكتُ الورقة فوجدتها مذكرة دعوة صادرة عن المحكمة الشرعية في دمشق بطلب التفريق والنفقة الزوجية ونفقة الطفلة المولودة.
استغربتُ الموضوع وخصوصاً أن زوجته أيضاً سيدة فاضلة راقية الأخلاق، رفعتُ نظري عن مذكرة الدعوة وسألته:
ما الحكاية؟
أجابني بنبرة لا تخلو من التهكم والسخرية:
والله أبداً يا سيدي، الموضوع وما فيه أن والدتها (حماتي) كانت تريدها أن تلد في مشفى خمس نجوم للتباهي والتفاخر أمام أقاربهم ومعارفهم، وعندما رفضتُ ذلك كون سمعة المشفى سيئة وقد وقعت فيها الكثير من الأخطاء الطبية أودت بحياة بعض المرضى، لم تكترث بذلك وصممت على رأيها، في حين كان رأيي أن تتم الولادة في مشفى أخرى معروفة بنظافتها ومهارة كادرها الطبي والتمريضي، لكنها اعتبرتها أقل درجة ولا تليق بالمستوى، وبدأت تحرّض زوجتي عليّ وكذلك عمي (زوجها) بحجة أني رجل بخيل ولا أنفق على زوجتي وأني أستخسر فيها وبابنتي أي مصروف تحتاجانه، وأني لا أستحق أن يكون لي زوجة وابنة مثلهما.
للأسف تحت تأثير ذلك التحريض استجابت زوجتي لها واقتنعت بكلامها فوّكلت محامٍ أقام لها هذه الدعوى وأشار إلى الورقة التي أعطاني إياها. سألته:
ما هو موقف والدها من كل ما يجري؟
ابتسم وأجابني:
للأسف يا أستاذ عمي رجل عديم الشخصية نهائياً؛ مغلوب على أمره، الكلمة الأولى والأخيرة لزوجته، ولا يجرؤ على مناقشتها في أي أمر تصدره أو تقرره. ابتسمتُ للفكرة، وقلتُ له:
لا بأس هوّن عليك.. كله لخير إن شاء الله.
في الموعد المحدد للجلسة أبرزتُ وكالتي وطلبتُ من القاضي إمهالي لحداثة الوكالة، فأمهلني القاضي لمدة شهر، بعد مرور الشهر وفي الجلسة الثانية دخلتُ قاعة المحكمة فصدفتُ محامي الزوجة وقد سبقني في الحضور، وهنا وجدتها فرصة سانحة للحديث معه علّنا نوفق بحلٍ يعيد المياه إلى مجاريها، لكني عندما فاتحته بالموضوع وجدته متأثراً بوجهة نظر والدة موكلته، ولم تجدِ معه كل محاولاتي بتذكيره أننا وكلاء لزوجين في مقتبل العمر أصبح لديهما طفلة صغيرة لا يجوز أن تتربى وتكبر بعيداً عن والديها وأن تُحرم من حنانهما ورعايتهما معاً.
عندما باءت محاولتي معه بالفشل، التفتُ إلى القاضي وقلتُ له:
أرجو من مقام المحكمة تكليف الزميل وكيل المدعية بتأمين صورة كاملة عن أوراق الدعوى ومستنداتها ووثائقها لأتمكن من الجواب، كونه لم يزودنا بأية وثيقة من وثائق الدعوى عندما قام بتبليغنا موعد الجلسة، وهذا مخالف لأصول المحاكمات. التفت القاضي إلى الكاتب وطلب منه تدوين ذلك على ضبط الجلسة وتأجيل الجلسة إلى الشهر القادم ريثما تتم إجابة الطلب ويحضر لنا المحامي الزميل صوراً عن وثائق الدعوى كافة، فشكرته وانصرفت.
في الجلسة القادمة دخل الزميل قاعة المحكمة حاملا بيده مجموعة من الأوراق ناولني إياها أمام القاضي، فأخذتها منه ووزنتها بيدي، ثم التفتُ إلى القاضي سائلاً إياه إمهالي لأتمكن من الجواب على وقائع الدعوى ومستنداتها، فقرر إمهالي وأجّل الجلسة إلى الشهر القادم .
كنتُ أشعر بحسي المهني أن مصير الزوجين هو الرجوع إلى بعضهما، وكنتُ مدفوعاً بحس المسؤولية اتجاه الطفلة الصغيرة التي لا ذنب لها، فكنتُ على استعداد لفعل أي شيء في سبيل رجوعهما إلى منزلهما لتتربى الطفلة في كنفهما. وفي الجلسة التالية تقدمتُ بجوابي على الدعوى ووثائقها ووقائعها، وبطبيعة الحال كما في مثل هذه الدعاوى قام القاضي بتأجيل الدعوى لمدة شهر على أمل المصالحة –كما ينص القانون– استشاط الزميل غضباً من التأجيل، فابتسمتُ في وجهه، وقلتُ له بهدوء:
هذا نص القانون يا أستاذ وما باليد حيلة، ولا زالت الطريق أمامك طويلة جداً.
نظر إليّ بعصبية وقال لي:
ماذا تريد يا أستاذ؟ إلى أين تريد أن تصل؟ وضعتُ يدي على كتفه بمحبة وقلتُ له:
صدّقني يا أستاذ لا أريد شيئاً لنفسي قط.. هناك طفلة صغيرة هي أهم مني ومنك ومن والديها، علينا أن نسعى جهدنا لكي تكبر في ظلهما معاً… فكِّر في كلماتي، ولك مني الحب والاحترام.
مر الزمن، وتعاقبت جلسات الدعوى تباعاً دون أن تحرز أي تقدم يُذكر، وكان يقيني يزداد يوماً بعد آخر بعودة الزوجين إلى بيتهما ليربيا طفلتهما معاً، فكنتُ أتذرع بشتى الوسائل لتأجيل الدعوى والتباطؤ بإجراءاتها، إلى أن كان يوماً لا أنساه، حيث خرج الزميل محامي الزوجة منهكاً من قاعة المحكمة والتفتَ إليَّ قائلاً:
والله أهلكتني يا أستاذ، وسوف أموت بسببك. ثم ابتسم وغادر.
كانت صدمة هائلة لي وصاعقة نزلت على رأسي عندما رأيتُ ورقة نعيه معلّقة على باب قاعة المحامين في القصر العدلي… شعرتُ بالذنب تجاهه، رغم أنها في الحقيقة لم تكن سوى مصادفة من مصادفات القضاء والقدر.
قرأت لروحه الفاتحة بحزن كبير وحرقة أكبر والألم يعتصرني.. تملّكتني عقدة الذنب لفترة ليست بالقصيرة، وما زلتُ أذكره بحزن ذلك الزميل المحامي الطيب الملامح؛ الدمث؛ الخلوق، ولكن ما خفف من حزني أنه بعد ذلك بفترة وجيزة تحققت ظنوني وعادت الزوجة إلى زوجها وعاشا –ولم يزالا – بمحبة وسرور، وأنجبا بعد ابنتهما ولداً وبنتاً آخرين.
عشتُ لحظة من أجمل لحظات حياتي المهنية عندما نقل لي ابن عم موكلي قول الزوجة وهي تضحك لابن عمه (زوجها):
“والله إن محاميك كان السبب الرئيسي في قراري بالرجوع إليك لفرط إصراره وعناده”.
فابتسمتُ بسرور وقلتُ له: “لقد وصلني حقي كاملاً… أتمنى لهما حياة سعيدة”.
.
بسام العطري
محام ومستشار قانوني.. سوريا