سورية والعالم
أخر الأخبار

فاروق الشرع: أدركتُ متأخّراً أن لدى بشّار الأسد ميولاً سيكوباتيّة

فاروق الشرع: أدركتُ متأخّراً أن لدى بشّار الأسد ميولاً سيكوباتيّة

فاروق الشرع: أدركتُ متأخّراً أن لدى بشّار الأسد ميولاً سيكوباتيّة

كلمة الدنيا:
نشر الاستاذ فاروق الشرع الجزء الثاني من مذكراته والتي ضمّت كثيراً من الاسرار والخفايا، اطلعنا عليها واستشعرنا كمّ المرارة التي شعر بها بها الرجل، وهي مرارة شعر بها كل مخلص يحمل حساً وطنياً ويرغب بتجنيب بلده سفك الدماء من خلال محاولة اصلاح هذا النظام، نقلاً عن موقع العربي ننشر هذا الجزء الهام والمفصلي، وسنعود لنشر باقي الاجزء تباعاً.

في ظلّ إصراره على الحل الأمني، أحكم بشّار الأسد قبضته على مفاصل السلطة والدولة، وكان للتدخّل الروسي، الذي أصرّت موسكو على أنه شرعي جاء بطلب الحكومة السورية المعترف بها دولياً، دور مهمّ في إنقاذ نظام بشّار الأسد عسكرياً، وفي مواجهة المحاسبة الدولية والعقاب، لا سيما في قضية استخدام الأسد السلاح الكيميائي ضد شعبه. ووجدت الأطراف الدولية في سورية مصالح متبادلة، وسارت التطورات وفق تفاهماتٍ معلنةٍ وضمنيةٍ، تفاهمات ستغيّر، برأي فاروق الشرع، النظام العالمي بصورة سريالية، ليشهد السوريون، تحت عنوان “الحرب على الإرهاب” والاحتفاظ بـ “بشّار أولاً”، نكبات تدمير وطنهم ومعضلات احتلاله متعدد الأشكال، ليظلّوا في حفرة عميقة، لا يعرفون متى وكيف سيخرجون منها.

أين حزب البعث الحاكم؟

في أوائل يوليو/ تموز 2013، وقبل يوم أو يومين من انعقاد المؤتمر العام لحزب البعث، دعيتُ على الرغم من انقطاعي عن العمل في مكتبي إلى اجتماع مصغّر ضم كلاً من أعضاء القيادة محمد سعيد بخيتان، وهيثم سطايحي وأسامة عدي. اقترح الرفاق عليّ أن أجتمع على انفراد مع الرئيس قبل المؤتمر؛ لأن مصلحة الحزب (كما عبّروا) تتطلّب حدوث هذا اللقاء. فرفضت الفكرة واستمر النقاش بيننا طويلاً. ولمّح بعضُهم إلى أن ما دار بيننا سيصل حتماً إلى مسامع الرئيس، فانصرفنا لأن مزيداً من النقاش لن يغيّر شيئاً. وأظنّ أن سطايحي نقل له مباشرة ما دار بيننا لأنه موضع ثقته، حيث كان يعمل في مكتبه قبل تعيينه عضواً في القيادة عام 2005.
كان واجبي الحزبي يحتم عليّ حضور مؤتمر حزب البعث في 8 يوليو 2013؛ لأنني كنتُ عضواً في قيادته.
لم يبدُ فعلياً مؤتمراً للحزب، لا من حيث الشكل ولا من حيث المضمون.
ورغم أنه جرت دعوتَنا إلى مؤتمر حزبي تحت عنوان اللجنة المركزية، فإن القيادة لم تُبلّغ بأسماء الحضور.
وجدْنا عند انعقاد المؤتمر أنه لم يحضر كل أعضاء اللجنة المركزية المسجّلين مثل المحافظين، بل أضيف إلى الحضور أشخاصٌ معيّنون من الرئيس والأجهزة الأمنية.
في الماضي، كان أعضاء المؤتمر يمثّلون الحزب سواء جاءوا بالانتخاب أو بالتعيين. لم تجرِ هذه المرّة أية انتخابات ولو شكلية من أي نوع، كالتي كانت تجري في الستينيات، وحتى أواخر التسعينيات، حين كنّا نبلغ الحزبيين المشاركة فيها حتى لو كانوا يعملون في بلد عربي يحظر وجودهم فيه.

افتتح الجلسة بشّار الأسد، وتتالى المتحدّثون في المؤتمر يكيلون سيلاً من المدائح للرئيس والانتقادات للقيادة القُطرية. ومن بين المنتقدين يوسف أحمد الذي كان قد صبّ جام غضبه على القيادة القُطرية من دون استثناء، ما عدا رئيسها بشّار الأسد بالطبع!
كان طبيعياً أن يتولّى الأمين القُطري المساعد بخيتان الرد على المداخلات، لكنه لم يكن جالساً على المنصّة الرئيسة كما جرت العادة. فاستدعاه الرئيس وأجلسه على مسافة محسوبة منه على كرسيٍّ انفلت رفاسه، فصار يعلو ويهبط بالأمين القُطري المساعد، والأسد ينظر إليه ويضحك! لا يستطيع وصف هذه الحالة بروحها الساخرة إلا الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف. … تم ضبط الكرسي بمساعدة من أحد الرجال الواقفين خلف الرئيس وراء الباب الموارب. وبعدما استعاد بخيتان أنفاسه ردّ على المنتقدين.

دخل عدد من الأشخاص مع الرئيس إلى غرفةٍ مجاورةٍ لصالة الاجتماع في القصر الجمهوري، وخرجوا منها بعد قليل ليعلن أسماء القيادة الجديدة من دون أي تصويت. لقد تم استبعادي أنا وجميع أعضاء القيادة القُطرية منها ما عدا بشّار الأسد، رغم أنه – بوصفه رئيس الجمهورية وأميناً لحزب البعث العربي الاشتراكي – يستمدّ رسمياً سلطاته التنفيذية والحزبية من هذه القيادة التي أسقطها ببساطة، لأنها من وجهة نظره العقائدية لا تؤيّد الحل العسكري.

جرى في ما بعد إغلاق مكتبي بوصفي نائباً للرئيس، وسُرّح معظم الكادر الوظيفي الذي كان يعمل معي بمن فيهم عمّال النظافة، ونُقلت قلة منهم إلى وزارات أخرى في الدولة. وبعدها وصلت رسائل إلى كل من كانت له علاقة بي، ويعمل في الدولة بمنع زيارتي أو التواصل معي.

التهديد الأميركي الخلّبي

جرى استخدام السلاح الكيميائي في الغوطة الشرقية في 21 أغسطس/ آب 2013، وقدّر عدد الضحايا بحوالى 1400 فرد بينهم أطفال.
وقبل ذلك بعام، كانت الإدارة الأميركية قد أعلنت أن استخدام السلاح الكيميائي خطٌّ أحمر. خصّص مجلس الأمن جلسة للاستماع إلى أيان ألياسون مساعد الأمين العام للأمم المتحدة حول استخدام السلاح الكيميائي في سورية، وطالب بفتح تحقيق حول هذه المسألة المتعلقة بالسلاح الكيميائي المحرّم دولياً، والتي يمكن أن يُحال مرتكبوها إلى محكمة الجنايات الدولية.
باشر باراك أوباما بحشد الأساطيل وقاذفات توماهوك والصواريخ الذكية، واختار مواقع حكومية سورية، وأعطى أسماء المستهدفين وأماكن وجودهم في دمشق! لم يكن التهديد الأميركي جاداً حقاً، لا سيما بعد إسراع روسيا، بطلب من واشنطن، في عقد صفقة مع سورية لنزع مخزون الأسلحة الكيميائية. اجتمع سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي وجون كيري وزير الخارجية الأميركي على الفور، وصدر بالإجماع قرار عن مجلس الأمن رقم 2118 في 27 سبتمبر/ أيلول 2013، طالب بتدمير مخزون الأسلحة الكيميائية ونزعها.
تنفّس السوريون الصعداء، لأن الضربة الأميركية من الصواريخ الذكية قد لا تصيب أهدافها المحددة، ولكن قد تصيب بعض السوريين الأبرياء.

في جلسة لاحقة له في 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2013، تبنّى مجلس الأمن تشكيل لجنةٍ من هيئة حظر الأسلحة الكيميائية بالاشتراك مع المجلس على أن ينتهي تدميرها لمخزون سورية في يونيو/ حزيران 2014. على الرغم من ذلك، تواصلت المزاعم حول استخدام الأسلحة الكيميائية في سورية؛
إذ في 22 مايو/ أيار 2014، أنقذت روسيا في مجلس الأمن السلطات السورية من اتهاماتٍ تلطخ أيديها بدماء آلافٍ من أرواح الأبرياء السوريين، وحالت دون محاسبتها أمام محكمة الجنايات الدولية، وذلك باستخدامها الفيتو للمرة الرابعة في مجلس الأمن.
انتهز سيرغي لافروف في لقاءاته وتصريحاته التراخي الأميركي، فطالب الولايات المتحدة بتصنيف جبهة النصرة عام 2014 منظمةً إرهابية.
انتهز كيري الفرصة أيضاً، وأبلغ بعض فصائل المعارضة السورية عندما اجتمع معها بلقاء في نيويورك بأنه يجب ألا تتوقع أن تقاتل الولايات المتحدة إلى جانبها، بل “نحن الذين نتوقع منكم أن تقاتلوا لمصلحتنا بسورية”.
استغلّ الإبراهيمي فرصة هذا التفاهم الروسي – الأميركي، فأبدى حرصاً شديداً على جمع الطرفين السوريين:
الحكومة والمعارضة للمرّة الأولى عام 2014 في جنيف.
لكن الاجتماع فشل ووصل الطرفان السوريان إلى طريق مسدودة بعد جهد بذله الإبراهيمي لم يقابل بجهود مماثلة روسية – أميركية! أصر الوفد الحكومي السوري على أن يكون الإرهاب في رأس جدول الأعمال مع المعارضة وفي كل الاجتماعات. كما لم تستثمر المعارضة وتسأل وفد النظام عن تعريفه للإرهاب.
لم يغضب الأميركيون من استخدام الفيتو الروسي، واستمرّت الاتصالات بينهم على الأقل في الأجواء السورية.
وكان التفاهم الروسي – الأميركي يجري في السر، ولا يتعدّاه إلى دول أخرى.

استقالة الأخضر الإبراهيمي

لمن يتذكّر القانون الدولي، يعرف أن جميع القرارات الصادرة عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة هي جزء من القانون الدولي، وما كانت لتمر لولا موافقة الحليف الروسي، بدءاً من بيان جنيف الأول عام 2012 وصولاً إلى القرار 2254، اللذين أقرهما في مجلس الأمن على مستوى وزراء الخارجية.
كان تجاهل هذين القرارين من الدولة في سورية يعني استبعاد الحلّ السياسي والاستمرار بالحلّ العسكري، ومواصلة تدمير البلد. كان واضحاً تجاهل الرئيس بيان جنيف وقرارات الأمم المتحدة بإعلانه عام 2014 عن إجراء انتخابات رئاسية لسبع سنوات أخرى؛ أي إلى عام 2021، وترشيح شخصين آخرين معه (شكلياً) ليلغي إحساس الناس بتفرده بالحكم، لكن النتائج أكدت التصور الاستبدادي الذي حاول نفيه بشق الأنفس.
تضاعف حنق الرئيس بشكل خاص، حينما صرح الإبراهيمي في 14 مارس/ آذار 2014 بـ”أن إجراء الانتخابات الرئاسية في سورية سيعيق أيّ عملية سلام بين الأطراف المتناحرة”.
سارعت صحيفة الوطن السورية في افتتاحيتها شبه الرسمية إلى توجيه نقد لاذع إلى الإبراهيمي في 3 إبريل/ نيسان 2014 واصفة الرجل بأنه “لم يكن يوماً وسيطاً نزيهاً، بل كان طرفاً في مشروع الشرق الأوسط الجديد”. وصارت استقالة الإبراهيمي وشيكة، لا سيما مع شكواه منذ بداية مهمته بأن الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ.

لم أذهب، بطبيعة الحال، إلى صندوق الاستفتاء للتجديد للرئيس بشّار الأسد عام 2014، قناعة مني بأن هذه الانتخابات فاقدة الشرعية، وخصوصاً أنها تجري ونصف الشعب السوري بين لاجئ إلى الخارج ونازح في الداخل، فضلاً عن الدمار الهائل في معظم المدن والبلدات السورية. واستقال الإبراهيمي في مايو 2014، وحل محله مبعوث عن الأمم المتحدة هو ستيفان دي ميستورا، الذي اعتقد بأن قرار مجلس الأمن 2254 سيسعفه في إيجاد الحل السحري للأزمة السورية.

التدخّل الروسي ومسار فيينا

بعدما أفشل الرئيس بشّار الأسد الحوار الوطني، وأجهض بعثة المراقبين العرب برئاسة محمد مصطفى الدابي، وأحبط المساعي الدولية ممثلة بكوفي عنان، وتخلّى عن الجهود العربية والدولية ممثلة في الأخضر الإبراهيمي، كما تخلى عن المبعوث الجديد ستيفان دي ميستورا، تشجّع الروس على التدخل عسكرياً في سبتمبر 2015 لكي يحولوا دون سقوط الأسد وانهيار النظام في دمشق.
اعتبر الروس أن تدخلهم شرعي، لأن الطلب جاء من الحكومة السورية.
لم يكن هنالك اعتراض دولي جدّي من أي طرف إقليمي أو دولي، باستثناء بعض السجالات الإعلامية المتهكّمة من واشنطن ضد التدخل العسكري الروسي.
لكن حقيقة الأمر أن التدخّل الروسي في سورية أرضى الأميركيين بانضمام روسيا إلى التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وأرضى النظام السوري للتخلص من “المعارضة السورية سلمية كانت أم مسلحة”، وأرضى الغرور الروسي العسكري بالإعلان عن إطلاق صواريخ فرط صوتية من بحر قزوين إلى شمال سورية.

حصلت روسيا بعد هذه التفاهمات على قاعدة حميميم الجوية وقاعدة طرطوس البحرية 49 عاماً، وحصلت الولايات المتحدة على مواقع عسكرية استراتيجية في شرق سورية من دون جهد يُذكر.
في هذه الأجواء المشحونة بالخيبات والتمنّيات، وبعد التدخل الروسي الجوي، عُقدت اجتماعات مصغّرة في فيينا في 23 أكتوبر، لإيجاد حل سلمي للأزمة السورية، ضمّت سيرغي لافروف، وجون كيري، وعادل الجبير عن السعودية، وفريد الدين أوغلو عن تركيا. ثم عُقد اجتماع آخر موسّع في 30 أكتوبر من العام نفسه بمشاركة إيران.
لكنه مع ذلك لم يحقق تقدمّاً رغم أنه كان أكبر تجمّع إقليمي ودولي على مستوى الوزراء ضم الاتحاد الروسي، والولايات المتحدة، والجمهورية الإسلامية الإيرانية، والمملكة العربية السعودية، وتركيا، وخمس عشرة دولة أخرى، فضلاً عن مشاركة الأمين العام للأمم المتحدة، ومفوضة الاتحاد الأوروبي، والمبعوث الخاص ستيفان دي ميستورا.
ظهرت بعد هذا الاجتماع مجدّداً مماحكات إعلامية بين طهران والرياض، وسجالات سياسية بين واشنطن وموسكو، لا سيما في سياق تمدد حلف شمال الأطلسي (ناتو) شرقاً وظهور المسألة الأوكرانية بتعقيداتها المعروفة؛ الأمر الذي وتّر الأوضاع بدلاً من أن يساعد على حلها. عُقد اجتماع آخر في فيينا نفسها في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني، طالب بوقف إطلاق النار والبدء بعملية انتقالية في سورية، لكنه لم يحقّق تقدّماً في حل الأزمة، مع أن التنسيق بين الشريكين الرئيسين، الروسي والأميركي، ظل مستمراً في الأجواء السورية، حيث إن “الاختلاف في الرأي لا يفسد للودّ قضية”!

تواصلت عملية اجتماعات فيينا بعقد اجتماع آخر في 14 ديسمبر/ كانون الأول 2015.
لم يحقّق الاجتماع خرقاً مهماً لحل الأزمة السورية، لكنه وضع النقاط على الحروف للمرّة الأولى، حيث صدر عن مجلس الأمن القرار رقم 2254 في 18 ديسمبر 2015.
في لقاءات كيري مع كلٍ من لافروف والرئيس بوتين في موسكو، ارتأوا ضرورة اجتماع الحكومة السورية مع المعارضة قبل مطلع السنة المقبلة، وجرى الاتفاق على تكليف الأردن بتحديد الفصائل المسلحة السورية التي لا تعدّ إرهابية، وتكليف السعودية بجمع فئات المعارضة السلمية مع بعضها.
ظهرت منصّتا موسكو والقاهرة للمعارضة على سطح الأحداث، فجرى ضمّهما إلى اجتماعات الرياض-1 والرياض-2. لكن الخلاف ظلّ قائماً بين موسكو وواشنطن حول مستقبل الرئيس بشّار الأسد، فلافروف فضّل ترك مصيره إلى الشعب السوري، بينما رأى كيري أن لا مستقبل للأسد في سورية.
الموقفان الروسي والأميركي غير متباعدين كثيراً، لأن الحرص على بقاء الأسد كان بالنسبة إلى الروس معلناً، أما بالنسبة إلى الأميركيين فطابعه سري للغاية.
بعدما اطمأنت روسيا إلى أن تدخّلها العسكري في سورية لم يلقَ اعتراضاً جدّياً من الولايات المتحدة، صعّدت من وتيرة استخدامها الفيتو في مجلس الأمن، وخصوصاً في معرض انتهاكات النظام السوري الجسيمة لحقوق الإنسان. تجاهل الروس تنفيذ القرار 2254، ولم يكن للأميركيين اعتراض على هذا التجاهل، لأنهم لم يكونوا متحمّسين لتطبيقه حينها؛ فالروس يحتلون سماء سورية، فيما يحتلّ الأميركيون شرقها.
بعد الإجهاز على آلاف السوريين من المعارضة المسلحة والسلمية بصواريخ المقاتلات الروسية في شرق حلب، جرى إطلاق روسيا وإيران وتركيا، بوصفها دولاً ضامنة، مسار أستانة عام 2017. واخترع بوتين (المشهور بحسه الأمني على المستوى العالمي) مصطلحاً أطلق عليه مناطق “خفض التصعيد”، التي تعني واقعياً أن روسيا غير قادرة على وقف القتال في كل الأراضي السورية بل خفضه فقط.

ليست هذه المصطلحات الجديدة المتعلقة بالدول الضامنة ومناطق خفض التصعيد عصيّة على الفهم.
لكن كيف يمكن تبرير نقل مقاتلي مناطق خفض التصعيد في “الباصات الخضر” إلى الشمال السوري؟
إذ لو تم الأخذ بالافتراض أن الشمال السوري سيكون ساحة لتأهيل المعارضة المسلّحة ليقبلوا بالتسوية السلمية، فلماذا لم يترك المعارضون حيث هم ويجري تأهيلهم؟
كان في إمكان تركيا أن تصبح ذات تأثير أكبر من تأثير اللاعبين الآخرين بحكم العلاقات التاريخية والحدود الطويلة مع سورية التي لا تتوفر لدى الروس والإيرانيين، وخاصة أن مسؤولية حراسة الحدود السورية – التركية الطويلة تقع على عاتق تركيا منذ توقيع اتفاقية أنقرة بعد الحرب العالمية الأولى في عام 1923.

السيكوباتية السياسية

لم يكن مستغرباً في خضم الأزمة السورية أن يتهامس بعض المواطنين بأن رئيسهم أصبح لديه سلوكٌ لا ينسجم مع ذكائه العلمي، حيث دأب بعض الكتّاب والمعلقين الاستراتيجيين على وصف هذه الحالة بـ”الانفصال عن الواقع”، وآخرون بـ”الشعور بالعظمة”، الذي قد يصيب بعض الحكّام الذين لا يتخلون عن كرسي السلطة، بذريعة أن هناك قضايا كبرى بانتظارهم.

أدركت، مع الأسف، متأخّراً وفي خضم الكارثة التي عصفت بسورية منذ عام 2011، أن لديه بعض الميول السيكوباتية، وهي حالة نفسية يفتقد أصحابها كلياً المشاعر؛ فلا خوف من العواقب، ولا شعور بالندم تجاه الخطأ، ولا تفاعل مع آلام الناس أو حتى هموم المحيطين به.
قد تبدو بعض هذه الصفات، أول وهلة، صلابةً أو جسارة، لكنها جسارةٌ تفتقد بشدة الحكمة عندما تصبح الأمور أشد تعقيداً والمواقف أكثر صعوبة.
ولعل المجازفات السياسية لإيران وروسيا المرتكبة طوال سنوات الأزمة، جاءت من الإدراك لهذه المواصفات التي اكتشفتاها في شخصيّته بحكم معرفتهما الطويلة بالداخل السوري.
لقد كان الرئيس بشّار نرجسياً لا يعرف دواخله إلا عدد محدود من المسؤولين الآخرين، منهم نبراس الفاضل الذي كان مقرّباً جداً من الرئاستين السورية والفرنسية، والذي استدعاه من فرنسا؛ إذ لا بد من أن الفاضل اكتشف أن اهتمام الرئيس بالخبرات الأوروبية لم يكن فعلياً في مجال النظم الإدارية، وإنما لتسويق صورته وصورة زوجته كلوحة فنية من تراث الغرب الأوروبي.

كان يرسل قبل أي زيارة رسمية إلى دولة أوروبية مسؤولاً سورياً ليتفق مع وكالات الأنباء والصحف لتغطية زيارته برفقة زوجته؛ فتتكلم هذه الوكالات عنه وعن أناقة زوجته، التي ترتدي أحدث ما صمّمته دور الأزياء العالمية، مثلما جرى حين أرسل وزير السياحة سعد الله آغا القلعة قبل الزيارة الرسمية إلى بريطانيا.
كما كان من المعروف أيضاً تعاقده مع إعلاميين أجانب لتلميع صورته وصورة زوجته.
ومع ذلك، نشر أحد الإعلاميين كتاباً ينتقدهما فيه.

بات من الملاحظ، حتى في خضم الكارثة التي ألمّت بسورية، أنّ اسمي الرئيس وزوجته كانا طاغيين على كل شيء في الفضائيات ونشرات الأخبار العالمية، بدلاً من اسم سورية وجيشها وقواتها المسلحة، حتى إن صوره تصدّرت الليرة السورية من دون شعور بالإحراج مع الوضع الاقتصادي المتردي، ودونما اكتراث أن النظام دفع من دم السوريين في حربه ضد المؤامرات الدولية أكثر مما دفعه السوريون في حروبهم من أجل فلسطين.

وعلى ذكر شعوره بالزهو، من منّا لا يتذكر خروج الرئيس بشّار إلى إحدى شرفات قصره منتشياً من فرط السعادة لـ “انتصار الروس”، ليعلن إعادة حلب إلى سيطرة الدولة عام 2016، وكأنه اعتبر ما قبل حلب ليس كما بعده، كأنه بداية تقويم جديد مثل ميلاد السيد المسيح!
كان الرئيس أيضاً يمارس العناد في غير محلّه ويتراجع عن قرارات أو مراسيم كان قد طلبها من وزرائه بسرعة قياسية، ثم يلغيها قبل أن يجف حبر توقيعه عليها.
وبوصفه مسؤولاً أول، لا يعتبر الرئيس نفسه مسؤولاً عن المراسيم التي يوقع عليها:
هناك رئيس حكومة ووزراء ومسؤولون عديدون يجب أن يتحمّلوا مسؤولياتهم كما يقول، وينفّذ كل واحد منهم ما هو مطلوب منه! وخير مثال على ذلك تراجعه عن الحوار الوطني الذي بدأ بمبادرة منه وكلّفني بترؤسّه، وهو يعلم أن هدفه بناء مجتمع سوري يتساوى فيه المواطنون في السلطة أو خارجها.

ولا يشعر الرئيس الأسد بأن كل السوريين مواطنوه؛ فإهمال جزء كبير منهم أمر لا يقضّ مضجعه.
لقد بات من الصعب على المحيطين به النفي أن الرهانات الإيرانية والروسية على سورية لم تستمدّ فعلياً من هذه الصفات الشخصية لبشّار الأسد.
فلا دولة محورية في العالم كانت تتابع باهتمام شديد تفاصيل الحياة في سورية أكثر من متابعة الروس والإيرانيين لها.
فالدول الأخرى بما فيها أميركا وأوروبا وتركيا وحتى دول الخليج العربية، كانت قد وضعت تصوّراتها وفقاً للتطوّرات المستجدّة، فيما رسم الروس والإيرانيون خططهم مسبقاً بدهاء ومكر عظيمين.

السلطة الخفية

بدأتُ بالتحدث عن السلطة الخفية علناً في اجتماعات القيادة القُطرية في بدايات الأزمة السورية، مستذكراً اتخاذ القيادة القُطرية المنتخبة سابقاً في عام 2005 ما سمّيت خطة الإصلاح، حيث تضمّنت بنداً يدعو إلى إصدار قانون للأحزاب وآخر لتحرير الإعلام.
بقيت هذه المقرّرات الجريئة التي اتخذت على وقع الغزو الأميركي للعراق آنذاك حبراً على ورق سنين.
فتساءلت في اجتماع القيادة القُطرية عن أنه إذا كانت أعلى هيئة سلطة في البلاد تتخذ قرارات فتوضع على الرف من دون اكتراثٍ بها، فمن هم إذاً الذين يملكون السلطة الحقيقية في البلد، هل هم حكومة أشباح؟
لم أتلقَ تعليقاً أو جواباً من أحد عن تساؤلي، لكن في إحدى المرات ذكرتني إحدى أبرز الشخصيات العسكرية السورية، العماد حسن تركماني، بحديثي حول مدى نفوذ السلطة الخفية عندما كنت أقول ليتها تأخذ مكاننا ولن نمانع في التخلي عن مناصبنا.
لم يشرح لي لمَ وصل إلى ذلك الاستنتاج المتّفق مع كلامي، لكني أعتقد أنه كان وليد تجربته في إعطاء توصياتٍ للرئيس خلال الأزمة لم يؤخذ بها مطلقاً.

سلاح المعارضة الهزيل

لم تملك المعارضة السورية المسلحة إلا سلاحاً هزيلاً، لتواجه نظاماً مدجّجاً بكل أنواع السلاح بما فيه الصواريخ والطائرات الحربية والطائرات السمتية التي تحمل البراميل المتفجّرة، فلم تُمنح المعارضة سلاحاً تواجه به النظام ومقدراته العسكرية، ومهما توسلت وأراقت ماء وجهها أمام الولايات المتحدة التي تدّعي دفاعها عن المعارضة، فلم تزودها بصواريخ محمولة على الكتف، مثل صواريخ “ستينجر”، التي أدت دوراً في إنهاء الاحتلال السوفييتي لأفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي!

مع ذلك كله، تظلّ شرعية السلطات السورية موضوعياً سارية المفعول في عالم أكثر من ثلثي سكانه شمولي السلطة والحكم.
لكن الحكومة السورية تعرضت للتشكيك في شرعيتها، ليس لأن معظم الدول العربية قاطعتها، ولا لأن “أصدقاء سورية” من أوروبيين وعرب مارسوا الدعم الوهمي للمعارضة، وإنما لأن النظام السوري نفسه لم يحترم دستوره الذي يحرم قمع الحريات، فلجأ إلى الاعتقال التعسفي، ومارس القتل خارج إطار القانون، وملأ سجونه بالمعتقلين منذ الأشهر الأولى لانتفاضات “الربيع العربي”.

هولاكو العصر الحديث

ليس مستبعداً البتة أن السوريين – من بقي منهم داخل البلاد أو غادرها لاجئاً أو تائهاً في أرض الله الواسعة، وسواء أكانوا من الذين تفاءلوا بـ “الربيع العربي” أو وجدوه شراً مستطيراً – سيظلون في حالة تباعد في قارّاتٍ تفصلها البحار والمحيطات عندما يتأكّدون بالصوت والصورة أن بلادهم دخلت موسوعة غينيس العالمية لاحتلالها المرتبة الأولى في ميدان الدمار.
لقد تفوقت مدنها وبلداتها المنكوبة على ما حلّ ببعض المدن الأوروبية مثل برلين وستالينغراد ودريزدن خلال الحرب العالمية الثانية. وسيدرك السوريون أنفسهم، عندما تهدأ الأحوال في بلادهم وينجلي عنها غبار الحرب، أن ما جرى فاق فعلياً ما خلفته جحافل هولاكو من قتل ودمار في بلاد الشام قبل مئات السنين؛ فـ “الطغاة يجلبون الغزاة”، حسبما يمكن فهم ما قاله عبد الرحمن بن خلدون في مقدّمته الشهيرة.
غير أن المفارقة أن عصر هولاكو في الماضي السحيق كان أكثر رحمة من هذا العصر الحديث، فهو لم يكن قادراً على الفتك بالبشر والحجر بمقذوفٍ كيميائي مزعوم مجهول المصدر، ولم يكن في استطاعته تدمير مئات البيوت وتحويلها إلى ركام في لحظات، لعدم توفر أنواع مبتكرة من البراميل المتفجّرة تهبط من السماء، أو من صواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت بأكثر من مرّة.

لن يكون مستحيلاً يوماً ما جمع السوريين بعد أن يتوقّف القتل، والبدء بتكوين صورة شاملة عما حصل، عندما نعرف بدقّة أعداد الضحايا والقتلى في الداخل السوري، والمهجرين واللاجئين إلى دول الجوار وما وراء البحار.
لكن كيف يتحقق ذلك قريباً، والأرقام في ارتفاع متواصل حتى اليوم؟
والأهم هو السؤال هل سيتمكن السوريون من الحصول على جواب شافٍ عن مصير أبنائهم من معتقلين أو مختطفين وكيف مات بعضهم؟
فإذا كان قد استعصى عليّ عندما كنت نائب رئيس الجمهورية وعضو القيادة السياسية أن أعرف مصير مقربين ومعارف غيَّبتهم أفرع الأمن إلى الأبد، بمن فيهم سائقي وكذلك مرافقي السابق لسنوات طويلة، فكيف سيتمكن الآخرون من ذلك؟

لا يستطيع النظام الادّعاء بالانتصار، وثلث الأراضي السورية يقع خارج سيطرته الفعلية، فشرق الفرات وإدلب والشريط على طول الحدود السورية – العراقية، بما فيه قاعدة التنف، خارج سيطرة النظام.
كذلك فإن المعارضة السورية مهما كانت تسمياتها وتحت أي سلطة تلوذ، لا تستطيع الادعاء بالسيطرة التامّة على الثلث نفسه، والتحكم بموارده الاقتصادية المهمة.
مهما تعدّدت الآراء والاجتهادات حول الأزمة السورية وتداعياتها على سورية والمنطقة، فإن المنتصرين الحقيقيين في المدى المنظور هم إسرائيل وروسيا وخلفهما الولايات المتحدة، التي لم تدفع تكاليف توازي ما ربحته في سورية من مواقع استراتيجية.
أما السوريون تحديداً، فجميعهم خاسرون، ولا أحد يستطيع التفوّق على النظام في ميدان “انتصار – الانكسار”.

كان السوريون في الماضي لاعبين ماهرين باعتراف الأصدقاء والأعداء، وقد يتجاوزون أحياناً حدود بلادهم بحقٍّ أو بباطل، لكنهم لم يسمحوا للآخرين باللعب داخل حدود سورية، سواء كان الآخرون حلفاء أو أصدقاء.
كل ادّعاء سوري رسمي بالانتصار اليوم، ليس إلا هذراً وخوفاً من إعلان الحقيقة المرة التي سيزاح غبار الحرب عنها يوماً ما.
صدق الإعلام السوري، ربما من المرّات القليلة، وصدقت معه الأقلام التي ادعت طوال سنوات الاقتتال، وعبر عشرات المقالات والدراسات، أن الحرب في سورية ستغيّر النظام العالمي، لأنه فشل في تغيير بشّار الأسد.
إنه حقاً تغيير سريالي للنظام العالمي، فقد أصبح الروس ينافسون الأميركيين على خطب ودّ إسرائيل على نحوٍ غير مسبوقٍ في تاريخ العلاقات الدولية، بعدما كان الادّعاء أنهم يعملون لإقامة عالم متعدّد الأقطاب لا مكان استراتيجياً لإسرائيل فيه. أما السوريون، في سياق حربهم على الإرهاب والاحتفاظ بـ “بشّار أولاً”، فقد شهدوا نكبات تدمير وطنهم ومعضلات احتلاله متعدّد الأشكال، ثم جرى تركهم في حفرة عميقة، لا يعرفون متى وكيف سيخرجون منها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى