أدب وفن ورياضةسورية والعالم
أخر الأخبار

نازك العابد

نازك العابد

نازك العابد

د. أنس تللو
إن طريق المجد والعظمة مليء بالعقبات ، إما وهاد وحفر تحذر من الوقوع ، وإما صخور وقمم تعرقل السير ، والعبقري الماهر هو ذاك الذي يحمل الصخور الكبيرة المنثورة على قارعة الطريق والتي كانت عوائق ليضعها في حفر الطريق ووهاده أي يمهد بها الطريق ، هذا الذي لا تثني عزمه عائقة ، ولا تكِّدر صفوه شائبة ، من هؤلاء الأبطال العباقرة كانت نازك العابد . . .

ولدت نازك في دمشق عام  1887؛ والدها مصطفى العابد من أعيان دمشق، ووالدتها السيدة فريدة الجلاد من النساء الفاضلات ، عمها أحمد عزة باشا العابد، كان من رجالات السياسة العثمانية، وهو عبقري فذ تمكن من السيطرة على مقدرات الدولة العثمانية الداخلية والخارجية . . .

في هذا الجو من الوجاهة والنفوذ نشأت نازك العابد ، وإن نفسها العظيمة جعلتها تعزف عن مظاهر الوجاهة والنفوذ .

درست نازك العابد مبادئ العربية والتركية في المدرسة الرشيدية بدمشق ، وكانت تنفر من المعلمات المتعاليات على اللغة العربية ، ثم درست الفرنسية والإنكليزية والألمانية في معاهد خاصة ، وأخذت تتردد على فطاحل اللغة العربية وأئمتها ، فتعلمت منهم النحو الصرف وأصول الكتابة . . .

قامت نازك بأعمال جليلة كثيرة كانت تتحدى فيها اليأس والهزيمة ؛ حاولت نازك العابد أن تؤلف أول جمعية نسائية في دمشق في العام 1914  غير أن الحرب العالمية الأولى أوقفت كل نشاط اجتماعي ، وقام الوالي التركي المسمى جمال باشا السفاح بنفي أسرتها كلها إلى مدينة إزمير ، فما كان من نازك العابد إلا أن قدمت خدماتها للمشافي التي كانت تغص بالجرحى والمصابين والمشوهين في المعارك الحربية ، وأخذت تقوم بأعمال التمريض والإسعاف ، وخلال الثورة العربية الكبرى التي قادها الشريف حسين عام  1916  كانت نازك تساعد أولائك النسوة اللاتي فقدن أزواجهن وآباءهن ، وأسست من أجل ذلك جمعية ( نور الفيحاء ) من سيدات دمشق ومناضلاتها ، ثم أنشأت جمعية      ( مدرسة بنات الشهداء العربية ) ثم أصدرت في كانون الثاني عام  1920 مجلة ( نور الفيحاء ) ، وهي مجلة نسائية أدبية تهدف إلى نهضة المرأة السورية وتحررها ، ثم بعد ذلك أسست ( النادي النسائي الشامي ) ، بعد ذلك شاركت بتأسيس فرع للصليب الأحمر الدولي في سورية باسم ( جمعية النجمة الحمراء ) ، ولاحظت الحكومة جهدها المستمر والدؤوب ، فأسندت إليها إدارة ملجأ اليتامى ، بعد ذلك وضعت نازك العابد حجر الأساس لمشفى يضم مائة سرير ، وراحت تختار أطباءه وممرضيه وموظفيه .

وماذا بعد ؛ جاء الاحتلال الفرنسي عام 1920 ، فهل كان لنازك دور في هذا ، وهل لشخصية كهذه أن تتنحى في هذا الموقف العصيب ، خرجت نازك مع الجيش العربي الذي قرر الصمود في وجه المحتل في ميسلون ، وكانت تتفقد الجنود بلباسها العسكري ، وكلها ثقة وإيمان برسالتها ، وكان من ثمرات ذلك أن منحتها حكومة الملك فيصل رتبة نقيب فخرية في الجيش ، وبذلك كانت نازك العابد أول امرأة سورية تحارب مع الجيش السوري في معركة ميسلون ضد الاحتلال الفرنسي . . . بعد ميسلون لم تتوقف نازك عن المقاومة ، فقد اتخذت لنفسها طريقاً جديداً في النضال ، فأخذت تحرض الأوساط ضد المستعمر وتزرع الشوك في طريق مخططات الاستعمار ، تجاه هذا العداء لم يجد المستعمر الفرنسي مخرجاً سوى بإبعادها فقام بنفيها إلى استانبول ، فاغتنمت هذه الفرصة وانتسبت إلى الكلية الأمريكية للبنات وتابعت دراستها للغة الإنكليزية ، ثم عادت إلى دمشق فنفاها المستعمر مرة أخرى إلى الأردن ، ثم سُمح لها بالعودة إلى دمشق شريطة ألا تمارس أي نشاط سياسي معاد للسلطة الفرنسية ؛ فتظاهرت بالقبول ، وأكدت أنها ستعمل بالزراعة في إحدى ضواحي دمشق . . . لكنها لم تتوقف عن النضال ضد المستعمر الفرنسي .

ثم انتقلت نازك إلى بيروت حيث تزوجت من الكاتب والمؤرخ اللبناني محمد جميل بيهم الذي كان معجباً بنشاطها ووطنيتها ، بعد الزواج لم تتوقف نازك عن نشاطها الاجتماعي والوطني ؛ فأسست في بيروت جمعية ( عصبة المرأة العاملة ) ، ثم ( جمعية إخوان الثقافة ) بالاشتراك مع زوجها ، ثم أسست جمعية ( تأمين العمل للاجئي فلسطين ) ، ثم أسست ميتماً لبنات الشهداء في لبنان ، يتم تعليمهن فيه العلوم الابتدائية والخياطة والتطريز ، ويحوي هذا الميتم مكتبة ونادياً أدبياً . . .

ظلت نازك العابد مثالاَ حياً للمرأة العربية المكافحة طوال سنوات حياتها . . .

وافتها المنية في عام  1959 ، ودفنت في بيروت .

لم ترزق نازك بأبناء وبنات ، فكان من مآثرها أنها هذبت وأرشدت مئات من بنات الوطن ، وقامت بتربية عشر بنات في بيتها .

بعد وفاة نازك العابد أقامت لها جمعية الهيئات النسائية في بيروت بعد رحيلها حفلاً تأبينياً كبيراً ، ونسيتها دمشق في ذلك الوقت ، وإنني أرجو أن يقام لها في دمشق حفل تأبيني تُبيَّن فيه خدماتها الجليلة لسوريا والوطن ؛ حتى تكون هذه الإنسانة مثالاً يُقتدى لدى الأجيال القادمة .

وهكذا نجد أن أصحاب الهمم العالية إذا أرادوا صعود الجبل من ناحية فتعثروا وسقطوا ، حاولوا من الناحية الأخرى ، فإن لم يفلحوا أعادوا الكرة ، والجبل كبير ونواحيه كثيرة ، ودوماً الإرادة تقهر الصعاب .

زر الذهاب إلى الأعلى